عبقرية الملك الراحل الحسن الثاني تتجلى في جلائل أعماله و لمحات أفكاره ومن طيات أحاديثه وخطبه.
كلنا نعلم الظروف الوطنية الحرجة التي رأى فيها جلالة الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه نور الحياة، حيث أنه ولد ووالده الهمام غائب عن القصر الملكي في رحلة إلى فرنسا ليفوض ويناقش الحكومة الفرنسية حول الأغلال والقيود المفوضة على القصر الملكي والشعب المغربي.
في هذا الظروف المشحون بالمضايقات نما الأمير المولى الحسن ووالده يكابد ويصارع عسى أن يتيح لولده وأبناء شعبه جوا مناسبا يتنفسون فيه وتبرز فيه مواهبهم وتنمو مداركهم.
ولما ادخله لكتاب القصر انتدب له فقيها كفؤا يتولى تربيته ويحفظه القرءان الكريم وينشئه نشأة إسلامية وعربية خالصة ، وفي هذه السن المبكرة أخذت همة الأمير تبرز في صور تنافس مع زملائه الذين كانوا معه بالكتاب وكانت بنت الفقيه المربي من جملتهم وهي تكبره عدة سنين، ولما رآها تختم القرءان بأكمله وهو ما زال في حزب “عم يتساءلون” أجهش بالبكاء معلنا عدم رضاه عن سبقها دونه.
وكذلك كان في سائر مراحل تعليمه، يأخذ نفسه بالأشق أن لم يأخذه به والده أو معلمه حتى لا يختلف عن ركب أقرانه ويقتصر عن أدراك الدرجة الأولى في النتائج الفصلية والسنوية وتشهد الدفاتر والأساتذة أنه لم ينزل قط عن الرتبة الأولى في سائر مراحل دراسته، وأن هذا ليس من قبيل المجاملة بل هو نتيجة اجتهاده وتفوقه، كما أكده مدير المعهد المولوي وهو فرنسي، إلا أنه لاحظ ذات يوم أن الأمير أظهر تقصيرا في نتيجة أسبوعية، فأشهر والده بذلك ، فما كان من الأب إلا أن أرغم ولده ملازمة المعهد عدة أسابيع وحرمه من كل متعة وراح ووكل به من يلازمه ليل نهار ليستدرك ما فات، ولم تنفعه في ذلك المعاذير والأسباب التي أبدأها (وفي هذا الصدد يقول مؤرخ المملكة الأستاذ عبد الوهاب بن منصور : أن سبب ذلك التقصير يرجع إلى انشغال الأمير مع أبيه بالإعداد لرحلة طنجة الشهيرة).
وقد تحققت إرادة محمد الخامس في ولده، فها هو الحسن الثاني على دست الحكم منذ عشرين سنة يمسك مقاليد الدولة بحكمة واقتدار ويدير دفتها بمهار فائقة، ضامن استمرار الدولة وثبات العرش العلوي المجيد.
وأما المنجزات التي تحققت في عهده فإن الكلام يطول لو ذهبنا نستعرض جلائل الأعمال التي أتت على يده وبتدبيره وحزمه، فلا يسعني إلا أن أقف وقفة إعجاب وإكبار أمام هذا الخضم من المنجزات التي لا يأتي عليها الحصر ولا يحيط بها المقال.
وإذا أوجزت القول فإني أرى أن أمورا ثلاثة كانت تستأثر أول الأمر باهتمام صاحب الجلال، حيث أنه بادر وأخرجها من عالم الفكرة إلى عالم الواقع والتنفيذ، وهي :
– تحقيق جلاء القوات الأجنبية عن المغرب
– تحقيق الحياة النيابية
– تحقيق الوحدة الوطنية والترابية.
فكان من يمن طالع جلالته أن الرأية الفرنسية نزلت عن ساريها من فوق مقر القيادة العليا الفرنسية بالرباط بمجرد تولية مقاليد الأمور أثر وفاة أبيه.
ثم أخذت الجيوش الفرنسية تنسحب من البلاد وتبعتها القوات الإسبانية ثم الأمريكية، ولم يمض إلا نحو سنتين حتى كان العالم المغربي هو الذي يرفرف وحده على جميع الثكنات والقواعد العسكرية.
وفي نفس الوقت كان رحمه الله يولي كل الاهتمام لتنظيم الحكم في المملكة على أساس دستوري وحكم نيابي تنفيذا للعهد الذي كان قطعه المغفور له محمد الخامس على نفسه لأمته وهو يعلن الاستقلال، إلا أن الأحداث لم تكن تمهله لتحقيق وعده وإعداد ما يلزم في إبان، لذلك كانت هذه المهمة من الأوليات التي بادر الحسن الثاني إلى إخراجها إلى عالم الوجود حيث بادر بعد توليته مباشرة بإعلان قانون أساسي للمملك، ثم تقدم للأمة بمشروع دستور فصادقت عليه في أول استفتاء شعبي أجرى في البلاد يوم الجمعة 7 دجنبر 1962 محققا بذلك أغلى أمنية طالما سلورة الأمة ونادت بها إلى أن تحققت على يده.
ثم جرت الانتخابات لمختلف المجالس الدستورية إلى أن انتهت بانتخاب مجلس النواب الذي افتتحه جلالته يوم 18 نوفمبر 1963، فكان أول برلمان في تاريخ المغرب على يد الحسن الثاني، وقد أحيا به مبدأ الشورى الذي سنه الإسلام وطيقه الخلفاء الراشدون.
وأما تحقيق الوحدة الوطنية والترابية فقد سار فيها مولانا الملك على نفس المنوال الذي تم به تحرير منطقة طرفاية ثم منطقة سيدي يفني إلى أن نادى جلالته بتنظيم المسير الخضراء لتحريرالصحراء.
لكن الذي ينساه كثير من الناس هو أن الحسن الثاني سار في قضية تحرير الصحراء بنفس الطريقة التي سار عليها في عهد أبيه لتحرير طرفاية،إذ من الثابت أن المستعمرين الإسبان تلكثوا وعرقلوا تسليم طرفاي رغم المفاوضات والاتفاقات المبرمة في شأنها بين الجانبين، إذ أنهم اعترضوا طريق فرقة الجيش الملكي المتوجهة لتسلمها منهم بحجة أن الطريق الموصلة لطرفاية تمر بالتراب الصحراوي،وهو ما زال إذا ذاك خاضعا لسلطة الإسبان .
الأمر الذي حفز قائد الجيش الملكي المولى الحسن (ولي العهد إذ ذاك) وأثار ثائرته فأمر بتنظيم مسيرة تحت مسؤوليته ودون علم السلطات العليا وقادها بنفسه ، أليس هذا دليلا على أن الذي ابتدع مسيرة طرفاية هو الذي ابتكر مسيرة الصحراء، لكن بكيفية فريدة من نوعها.
فهذه ومضة من ملامح عبقرية الحسن الثاني، ارتسمت من خلال تتبع واع لأفكاره وخطبه وندواته وأحاديثه وأعماله ومنهجه في الحكم.
مملكتنا.م.ش.س