من البدايات الأولى للوعي الإنساني، هناك حيث يكمن اللاوعي والخبرات المختزنة في تلك الصناديق المغلقة في العقل الباطن، من تلك المناطق الصاخبة والمشوشة سيرى الكائن ما لا يتوقع أن يراه ويعيشه من خبرات ماضية، وهو ما يحصل في فيلم “تأثير سكوبيا” الذي سيمتزج فيه الخيال بالواقع وستبحر من خلاله الشخصية الرئيسية في ذلك العالم المجهول.
في فيلم “تأثير سكوبيا” لمخرجه كريستوفر بوتلير (إنتاج 2014)، نقترب أكثر ما يمكن من الخيال العلمي الممتزج بالسيكولوجيا ومع الشخصية وهي تعيش مضاعفات أزماتها.
يبحر بنا الفيلم في خيال علمي ممتزج بشيء من ميلودراما الرعب في أزمنة شتى، لا توقفه الجغرافيا، ويتنقل بين محطات التاريخ براحة، وهناك في اليابان أو في فرنسا أو في إنكلترا أو في الهند ستطوف الفتاة البولونية الشقراء باشا (الممثلة جوانا ايجنازيسكا) وهي تعيش أقسى أزماتها النفسية، مسترجعة كيف تمّ قتل أمها أمام ناظريها، الضحية نفسها، امرأة في الهند أو فتاة في اليابان، وباشا تتنقل في تلك العوالم المطموسة وتعيش في صراع مرير لا تستطيع الخروج منه بسهولة.
يصنع المخرج وكاتب السيناريو كريستوفر بوتلير بناء سرديا متقنا محوره الأساسي تلك الفتاة باشا، وهي تتجول في أقبية العقل الباطن الذي يتيح لها السفر عبر الزمن إلى تواريخ وأحداث ماضية، فكأنها تشاهد أمها الضحية وقد استبطنت صور وشخصيات نساء ضحايا في بيئات وبلدان شتى.
وتتكثف في الفيلم تلك التحولات مع المشاهد الأولى للقاء باشا مع طبيبها النفسي الذي يدفعها إلى الغوص في ذلك الماضي، وفتح صناديقه المغلقة الكامنة في العقل الباطن والتخلص منها، الواحد بعد الآخر، لكن تلك الفرضية ستمنح باشا جناحين تحلقان بهما في الأزمنة الغارقة في الماضي والمجهول، استبطان الأزمات التي تلاحق الإنسان في أماكن شتى، فالمحنة واحدة والأزمة واحدة والضحية واحدة وإن تعددت الأزمنة والأمكنة. هنا نحن أمام نوع فيلمي مختلف يمزج الخيال العلمي بالخيال السيكولوجي الذي هو أقرب إلى العصاب بالرعب، وهو مزيج فريد كانت محوره باشا التي نجحت أيما نجاح في تعويض المشاهد عن شخصيات أخرى، مع أن مساحة الألم التي وقعت عليها والتي عبرت عنها من خلال شخصيتها السيكوباثية، قد جعلت وطأة الفيلم أثناء المشاهدة ثقيلة لجسامة الآلام التي تتــكبدها الشخصية في كل مشهد تقريبا.
فلا تكاد تخرج من مكان إلى آخر حتى تداهمها تلك الصور التي هي خليط من الكوابيس والإبحار في الماضي مع صور واقعية، تحركها دوما حادثة اغتيال الأم التي لا تكاد تفارقها.
ينجح المخرج أيضا في رسم خطوط العزلة النفسية والاجتماعية التي تعيشها الشخصية التي بدت في بعض الأحيان عائمة وبلا جذور واقعية، وهي نقطة أخرى في معالجة نوع الخيال العلمي من جهة درجة القرب أو الابتعاد عن الواقع، وهو أمر دفع إلى معالجة سردية فيها بعض الاسترسال السائب والمترهل، مع أن الانتقالات المكانية والزمانية أسهمت إلى حد كبير في الحدّ من ذلك الترهل.
الكثافة هنا تكمن أيضا في المونتاج والصوت اللذين لعبا دورا مهما في تقديم تلك الغزارة التعبيرية الصورية واللقطات المتلاحقة والقطع المتواصل أثناء التحول من واقع نفسي ومن صراع إلى آخر، لا سيما وأن جانبا آخر مهما في الشخصية يكمن في تعرضها إلى هجمات متخيلة تجعلها تتماهى مع شخصية الأم الضحية.
وأما إذا انتقلنا إلى المعالجة الفيلمية المرتبطة بالغوص في الماضي، فلا شك أننا إزاء مشاهد مصنوعة بعناية، وهناك حبكات ثانوية حركت أحداث الفيلم، فلم تكن المشاهد المتتابعة في اليابان وفرنسا والهند وإنكلترا مجرد نوع من التداعي للماضي، بل كانت من صلب المعالجة الدرامية للخيال العلمي، وكانت هنالك شخصيات فاعلة تعيش أزماتها مع مدّ الجسور مع الشخصية المحورية باشا، وهي تستكشف ذلك العالم الموبوء الذي يعاني من الآلام والعذابات. وامتدادا لمحور الشخصية، فقد عزف الفيلم على وتر دراما إنسانية خالصة أراد من خلالها إخراج تلك الشخصية المستلبة من عالمها الوهمي والإشكالي إلى عالمها الواقعي، إلى درجة أنها تدفعك إلى التعاطف معها.
ومع ذلك وفي الوقت نفسه تجعلك تفكر في كل هذه الكثافة من الصور والانتقالات في الأماكن والمشاهد، وهي في بعض الأحيان تفوق طاقة الشخصية التي تبدو غالبا مسلوبة الحيلة، غير قادرة على مجابهة قدرها سوى بالهلع والدمع، وهو ما جلب لها تعاطفا مضاعفا بكل تأكيد. هذه الدراما الموغلة في الخيال العلمي والغرائبية والتي تغوص في الأزمنة وتتنقل في ما بينها، تقدم لنا معالجة درامية مختلفة عن كثير من أفلام الخيال العلمي والرعب، ومختلفة أيضا عن أفلام أخرى محورها الأساسي التحولات النفسية، وهي جرأة تحسب لصانعي الفيلم مع أن أفلاما من هذا النوع قد تشعر المشاهد بصعوبة العثور على ملامح النوع الفيلمي المعتاد لفيلم الخيال العلمي والرعب والسيكولوجيا، وإذا بها تمتزج في عمل فيلمي واحد .
مملكتنا.عرب