المغرب يعيش ثورة هادئة تنسحب على معظم مفاصل الحياة، ومن حقه علينا تشجيع التجربة مع بيان الإخلالات، ومن حقنا عليه النجاح في سياق الاستثناء الثوري في العالم العربي.
بمعزل عن السباق الانتخابي المحموم في الاستحقاق البلدي المغربي، وبعيدا عن الصراع السياسي بين المتنافسين الحزبيين والمستقلين، فإنّ حجم التركيز الإقليمي والدولي والاهتمام الخارجي بالحدث يشيران لا فقط إلى الرهانات الإستراتيجية القائمة على خارطة توازن القوى السياسية في المغرب، وإنما أيضا إلى دخول المغرب مرحلة الإصلاح الجذري والحقيقي حيث يمثّل كل استحقاق انتخابي فرصة لاسترداد الشعب لحقّ القرار والخيار في البلاد.
فأن تتجه الأنظار الإقليمية والدولية إلى الاستحقاق البلدي في المغرب، فذلك يؤكد أنّ البلد دخل مرحلة “التأسيس المؤسساتي” حيث تناط بالانتخابات البلدية تأسيس مجالس نيابية محافظاتية تحظى بصلاحيات مستقلة عن بقية السلطات الأخرى، ويشير أيضا إلى أنّ المغرب الجديد جادّ في مسار الدستورية الملكية الذي خطّه الملك محمد السادس مع ما يكتنف هذا الخيار من إكراهات داخلية ترفض تسليم “المخزن” لمعظم الصلاحيات الملكيّة إلى الشعب والمؤسسات المنتخبة، إضافة إلى حسابات إقليمية لممالك سابحة على آبار الغاز، ومالكة لمفاتيح إمبراطوريات إعلامية كبرى لم تستعد بعد – ولا نظنها ترغب – للإصلاح من صلب النظام الملكي ذاته.
بالإمكان الحديث عن مزالق ومؤاخذات كبيرة شابت الاستحقاق الانتخابي البلدي من عزوف للشباب، أو تجاوزات اشتراء أصوات بالدجاج الحيّ، أو الاشتباكات العنيفة بين الأحزاب المتنافسة خاصة على بيضة القبان في فاس ومكناس وغيرهما من المحافظات الكبرى، إلا أنّ كل هذه الشوائب لا تخفي حقيقة أنّ المغرب يؤصل حاليا لمفهوم “اللامركزية التنفيذية”، ويؤسس أيضا لمبادئ “التوزيع العادل في السلطات بين البلديات” ولأفقية إدارية في القرار ولاستقلال “الهامش” عن المركز، وهي كلّها مؤشرات وعناوين انخراط المغرب في “ترشيد الملكية” أو “الملكية الرشيدة”.
كثيرا ما تتعلق مقدّمة “الربيع العربي” بنهايات “الفوضى” و“الدولة الفاشلة” و“الإرهاب والتهريب” و“الاقتصاد الموازي”، إلا أنّ هذه القاعدة يشذ عنها المغرب الذي شهد بدوره حراكا شعبيا جارفا خلال فبراير 2011 وصلت شعاراته إلى حدّ المطالبة بإسقاط الملكية وتأسيس حكم برلماني ديمقراطي في البلاد، غير أنّ فطنة العاهل المغربي وتعقلّه ورفضه الدخول في معركة كسر عظام مع شعبه، حالت – كلّها – دون تكرار النماذج الليبية والسورية في المغرب… فأنقذ بذلك البلاد والعباد.
قرار المغرب خوض انتخابات بلدية مستقلة تحت إشراف المنظمات التعديلية الانتخابية منها والإعلامية – ودون الحاجة إلى مشرفين أو مراقبين دوليين – هو دليل على أنّ السلطة السياسية تمكنت من نيل ثقة الشعب والرأي العام المحلي، وهي عصب كلّ بناء ديمقراطي في العالم، وبالتالي فهي تجاوزت معضلة الربيع العربي ومحنته بأقل فاتورة من الدماء، وبأعلى قدر ممكن من الإصلاح والتطوير.
ولئن نجحت تونس في استحقاق الديمقراطية بلا تنمية، وتمكنت بعض الدول العربية الأخرى من تحقيق التنمية دون ديمقراطية، فإنّ المغرب نجح في تأمين مستويات محترمة من التنمية ومنسوب معتبر من الديمقراطية الناشئة في دول متصحرّة ثقافيا وسياسيا.
كلّ من يزور المغرب في هذه الأيام يدرك مدى التطوّر الذي تحقق في مجالات البنية التحتية والاقتصاد والأمن والسياحة، وحتّى البيئة، ويتلمّس ثمار عمل واجتهاد مضنييْن يؤديهما المغرب – دولة وشعبا – في مسار الحرية والتحرر.
المغرب يعيش “ثورة باردة هادئة” تنسحب على معظم مفاصل الحياة اليومية، ثورة بلا دماء ولا دمار، ثورة بلا تدخل أجنبي ولا طائرات بلا طيار ولا صواريخ توماهوك، ومن حقّه علينا تشجيع التجربة مع بيان الإخلالات القائمة وهي كثيرة، ومن حقّنا عليه “النجاح” في سياق الاستثناء الثوري في العالم العربي.
يظلم المغرب كثيرا عندما يوضع خارج “بلدان الربيع العربي”، ويهضم حقّه أيضا عندما لا يدرج في سياق “الدول الاستثناء” الصامدة في وجه تسونامي الربيع العربي.
فلئن اشتعلت الدول العربية بفرط مكابرة حاكميها، فإنّ المغرب يعيش “الثورة الباردة” بفضل “الملكية الراشدة” و”رشد الملك”.
مملكتنا.عرب