الوداية مدينة الفنون والتاريخ والسياحة
هنا تجد العاصمة الرباط هويتها، في هذا المكان تسترجع ذكرياتها ومجدها وتاريخها، هنا يقف الرباطيين ليتأملو عظمة أجدادهم وبسالة رجالهم الأولين، هنا بالضبط يفتح السياح أفواههم منبهرين بروعة المكان والمعمار.. هنا كذلك أبدع المبدعون حينما انشرح صدرهم واستجاب إلهامهم، هنا وليس في مكان آخر، حكايات وحاكيات…
على الضفة الجنوبية لنهر بورقراق بنيت النواة الأولى للرباط في عام 1150، في مساحة تزيد على أربع هكتارات. بنيت المنطقة حسب المعلومات التاريخية المتوفرة من الحجارة والتراب المدكوك والأجور المطهي والملاط الجيري.
كل هذه المواد على الرغم من بساطتها إلا أنها ساهمت في بناء أهم منطقة سياحية في الرباط لجمالها وتاريخها وموقعها.
تقع قصبة الوداية في شمال شرق المدينة فوق جرف صخري يطل على الساحل الأطلسي ومصب نهر أبي رقراق. تحيل كلمة الوداية على اسم قبيلة صحراوية كانت تسكن القصبة وأدمجت ضمن الجيش العلوي للدفاع عن المدينة ضد هجمات القبائل المجاورة.
المعطيات التاريخية
حكاية القصبة قبل مجيء الموحدين، لا تزال تعتبر لغزاً حيث لا يعرف إلا الشيء القليل على الموقع خلال هذه الفترة من التاريخ. يقول المؤرخون إن الأمير المرابطي تاشفين بن علي بنى عام 1140 على مصب نهر أبي رقراق رباطاً عسكرياً ودينياً أطلق عليه اسم قصر بني تاركة، والحفريات التي أجريت أخيراً بالقرب من الباب الكبير مكنت من العثور على بقايا أثرية تعود لهذه القلعة الوسيطية.
يبتدئ التاريخ الحقيقي للموقع مع مجيء الموحدين. في عام 1150 أمر عبد المومن بن علي أول الخلفاء الموحدين، ببناء قلعة على الضفة اليسرى لمصب أبي رقراق وسماها المهدية، نسبة إلى المهدي بن تومرت الزعيم الروحي للموحدين. لعبت هذه القصبة دوراً هاماً حتى وفاة مؤسسها، حيث فقدت أهميتها وأهملت، لتحل محلها مدينة رباط الفتح الجديدة التي بناها يعقوب المنصور.
وفي عام 1609 لما طرد فيلب الثاني الموريسكيين من إسبانيا، حل حوالي 2000 ممن يعرفون “بهورناتشيروس” بالقصبة، حيث استقروا بها واستقطبوا الآلاف من المطرودين ليعزروا مكانتهم. وحتى يأمن خطرهم، عمد السلطان السعدي المولى زيدان إلى دمجهم في جيشه وكلفهم بالدفاع عن مدينتي الرباط وسلا. كانت القصبة في حالة خراب، فقام الموريسكيون بترميم الأسوار وعدة بنايات، ومقابل ذلك منحهم السلطان حق استخلاص الضرائب على السلع داخل الميناء. لم تستمر هذه الوضعية إلا بضع سنوات إذ استقل الموريسكيون عن السلطة المركزية، وكونوا ما يعرف بجمهورية أبي رقراق المستقلة، واتخذوا من القصبة عاصمة لهم. كانت هذه الإمارة الصغيرة تعيش على مداخيل الميناء وتتعاطى للقرصنة على السواحل الأطلسية.
مع وصول العلويين إلى الحكم، انتهت هذه الفترة المضطربة من تاريخ مصب أبي رقراق حيث سيطر المولى رشيد عام 1666 على القصبة ووضع المورسكيين تحت سلطته. وعلى الرغم من استمرار نشاط القرصنة في المنطقة، فإن السلطان تمكن من ضبط الأوضاع، وعرفت القصبة في عهده عدة أشغال للتوسعة، حيث مدت الأسوار في اتجاه الجنوب الشرقي ودعمت ببرجين كبيرين، كما شرع في بناء الإقامة الملكية التي استمرت أشغالها تحت حكم المولى إسماعيل.
وخلال الفترة الممتدة من 1757 إلى 1789 قام السلطان سيدي محمد بن عبد الله بترميم تحصينات القصبة وإعادة تهيئة الميناء لدرء مخاطر وهجمات المسيحيين. كما جهز أسطولا وجيشاً لوضع حد لنشاط القرصنة والسيطرة على النشاط التجاري، لكن أهم إنجازاته العسكرية تمثلت في بناء برج الصقالة الذي وضع تصميمه المهندس الشهير محمد الإنجليزي.
وتحت حكم المولى يزيد (1790-1792) شهدت القصبة بناء عدة معالم أهمها المخازن التي تعلو ساحة الملوحة. أما المولى عبد الرحمن (1822-1859)، فقد قام بتعمير القصبة بمجموعة من وجهاء وأعضاء قبيلة الوداية المعقلية الصحراوية، وكلفهم بمهام الشرطة والمراقبة واستخلاص الضرائب وتسيير الشؤون العامة.
عرف هذا الموقع تاريخاً متنوعاً ومتميزاً، يتجلى خصوصا في المباني التي تتكون منها قصبة الوداية فسورها الموحدي وبابها الأثري (الباب الكبير)، يعتبران من رموز الفن المعماري الموحدي، بالإضافة إلى مسجدها المعروف بالجامع العتيق، أما المنشآت العلوية فتتجلى في الأسوار الرشيدية، والقصر الأميري الذي يقع غربا، وكذلك منشآتها العسكرية وبرج صقالة.
شخصيات مرموقة
استقطبت الوداية منذ القديم شخصيات مرموقة منها أمراء وفنانون ودكاترة وسياسيون. ومن بين الفنانين المغاربة الذين عاشوا تطور هذه المدينة الصغيرة الفنان حسن ميكري الذي تحدث بإسهاب عن الوداية التي عاش فيها أزيد من 37 سنة.
حسن ميكري، يقول إن الوداية عبارة عن مدينة أخرى في قلب الرباط، قدم إليها من وجدة قبل سنوات. خلال إقامته بها عاش في ثلاثة منازل كانت جميعها تطل على ضفة أبو رقراق، وقرر في الأخير الاستقرار في المنزل الثالث الذي يوجد فوق برج القراصنة، يقول ميكري بخصوص الوداية، “بالنسبة لي قصبة الوداية ليست بناية مغربية، وأنشأت من أجل حماية “شالا” التي بناها الرومان، إذن كان دورها في البداية هو الحراسة فقط ولكن في مرحلة لاحقة، بالضبط في فترة الحماية بدأت معالم المدينة تتجلى، حيث بنيت منازل وقصور يبلغ عددها أربعة بالإضافة إلى قصر العلويين الذي أصبح متحفاً حالياً، ومن هذه القصور، قصر لإحدى الكونتسات الفرنسية، وكان المرحوم مولاي عبد الله يزور الكونتيس كلما وجهت له دعوة، لأنه كان من عشاق قصبة الوداية، وكان الدكتور “سان كلير” طبيب الملك محمد الخامس حول عددا من المنازل إلى إقامة خاصة به. ولخدمة القصور كان لابد من استقطاب الحاشية. هكذا بنيت منازل أخرى خاصة بإقامتهم. في مرحلة الحماية كذلك وحتى بعدها، استقر عدد من الأجانب الذين أعجبوا بالقلعة وبالمناظر المحيطة بها، وهكذا بدأت المنطقة تكبر وتكتظ بالناس”.
ميكري أوضح كذلك، أن المزج الذي عرفه سكان منطقة الوداية جعلها تبدو مدينة مخضرمة، حيث بدا شكل البنايات مختلفا ومميزاً، بعضها كانت تتخذ الشكل الأندلسي العتيق وبعضها تبنى على الطريقة الغربية.
جمال البنايات وجمال الطبيعة المحيطة بها وتاريخها جذب ولا يزال يجذب عددا من الشخصيات المرموقة في مختلف المجالات، من أبرز هؤلاء الشخصيات على سبيل المثال نذكر الفنانون التشكيليون “مونتيل” و”لوران” ولوي غا” الذي بنى رواقاً خاصاً به، بالإضافة إلى الفنانين التشكيلين المغربين محمد بناني، والغرملي.
من المؤكد أن الفنانون كانوا يقعون في غرام قصبة الوداية عندما يزورونها، ولأنها كانت مصدر إلهام بالنسبة لهم، استقروا فيها ولم يمنعوا أنفسهم من البقاء فيها. كان إغراؤها لا يقاوم وسحرها ولا يضاهيه سحر آخر، يقول ميكري في هذا الصدد إن المكان فعلا يلهم بل ويصفها بمدينة الفنون. فيها صورت أقدم الفيديو كليبات المغربية ومجموعة من الأفلام السينمائية والروبورتاجات التاريخية والوثائقية.
شاعرية المكان وحميميته هي من الطراز الخاص، لذلك لم تستقطب القصبة أهل الفن فقط، ولكنها استقطبت أيضاً رجال الدولة، نذكر منها المحجوبي أحرضان وفتح الله ولعو وغيرهم.
حب ميكري للمكان الذي قضى ويقضي فيه عمره، بدا جلياً من خلال حديثه، يقول الفنان إن قصبة الوداية مكان سحري وخارق للعادة، الإنارة التي توجد فيه ليست كما في الرباط، هنا يمكن الاستمتاع ومشاهدة شروق الشمس وغروبها بوضوح.
تتميز قصبة الوداية بالحديقة الأندلسية التي يعتبرها سكان الرباط وحتى سكان سلا متنفساً ومكاناً للاسترخاء والاستجمام صيفاً وشتاء، ومن الأماكن التي تزيد من قيمة القصبة هو المسجد العتيق وهو من أقدم المساجد التي بنيت في الرباط، وكان قد بني للجيوش وسكان قصر العلويين الذي أصبح حالياً متحفاً تنظم فيه معارض ولقاءات مغربية ودولية ومؤتمرات وحفلات، هناك أيضا مقهى “لي مور” المختصرة لكلمة الموريسكيون، هناك يستمتع السياح بالمنظر البانورامي الذي يجمع بين الوداية وضفة أبو رقراق وسلا وما جاورها، وهناك أيضا يتذوقون الشاي والحلوى المغربية بنكهة خاصة.
هذه المعطيات كلها جعلت الفنان، يفكر شخصياً في خلق مهرجان، هو المهرجان الدولي لصيف الوداية للثقافة والفنون بشراكة مع وزارة الثقافة والذي نظمت دورته الرابعة الصيف الماضي.
الحياة الاجتماعية
أصبحت الحياة الاجتماعية تستقر في قصبة الوداية بعد تكاثر البنايات، وبعدما كان سكانها الأولون هم خدم القصور ظهرت فيما بعد طبقة اجتماعية أخرى.
في قصبة الوداية بني أول فرن تقليدي ثم بني الثاني، واحد منهم حاليا أصبح منزلا يقطنه أحد السكان، أما الثاني فلا يزال يحافظ على هويته ويرتاده السكان ليطهوا فيه “خبز الدار” على حد قول حسن ميكري.
بعد ذلك بني حمام تقليدي وقدم عددا من الأمازيغيين الذين فتحوا محلات تجارية، فأصبحت القصبة فعلا مدينة صغيرة وبات السكان يجدون كل ما يبحثون عنه داخل القصبة ولا يحتاجون للخروج إلى وسط الرباط من أجل قضاء أغراضهم. باتت مدينة مكتملة.
ما يميز الحياة الاجتماعية داخل قصبة الوداية كما أفاد الفنان ميكري، هي أنها لا تزال تحافظ على العادات القديمة، بحيث مثلا ما تزال المرأة عندما تعجن الخبز تضع اللوحة قرب باب بيتها وعندما يراه أحد المارين يحمله إلى الفرن التقليدي ثم تذهب بعده في وقت لاحق. كما لا تزال فكرة “الحومة”، التي اندثرت في الرباط مترسخة لدى أبناء سكان الوداية إلى الآن.
يقول ميكري إن السكان ليسوا كثر، لذلك يعرفون بعضهم بعضاً جيدا، بل ويعاملون بعضهم البعض كما لو أنهم من العائلة نفسها، لذلك تجد أغلب السكان يعرفون بيوت الوداية واحدا واحداً. ويعتقد ميكري بأن شباب المنطقة مثقفون ومنفتحون ويخدمون أحياءهم.
أنجبت نساء القصبة كما قال الفنان المغربي، دكاترة وأساتذة، أما شيوخها فلا يزالون يجتمعون بالعشرات في العشية يلعبون “الضاما” ويقومون للصلاة جماعة عند سماعهم الأذان، أما النساء فمتنفسهم هو الحديقة التي يقضون فيها أوقات فراغهم.
اجتماعياً، تغيرت الوداية بشكل إيجابي حسب ميكري، إذ أصبح هناك مزج بين الأصالة والمعاصرة وخلاصة القول، سكان الوداية يوزعون على طبقات اجتماعية مختلفة فيها الفقيرة والمتوسطة والغنية، فيها أجانب ومغاربة، ومعظم المغاربة الذين باعوا منازلهم ندموا عليها الآن، على حد قول ميكري.
فكرة اقتناء منزل في قصبة الوداية هذه الأيام بات من الأمنيات التي يصعب تحقيقها، حيث لم تعد هناك بيوت شاغرة، وإن حصل أن خطر ببال أحدهم بيع بيته لابد من إغرائه بسعر جد مرتفع ليعيد التفكير في الموضوع.
يقول ميكري إن الوداية مدينة يستأنس بها بسرعة، ومن عاش فيها يصعب عليه الخروج منها، مشيرا إلى أنها تحتاج إلى إعادة النظر في مسألتين مرتبطتين بالبنية التحتية. المسألة الأولى تتعلق بخيوط الكهرباء العارية، والتي تشكل خطراً على السكان ومنظراً بشعا للسياح، والمسألة الثانية هي الرائحة الكريهة الناجمة من مجاري الصرف.
حالياً أصبحت الوداية مثل مدينة دولية تجد فيها كل الجنسيات وتسمع فيها تغريدات بمختلف اللغات، صنفت أخيراً ضمن الموروثات الثقافية العالمية، وتتمتع بشهرة واسعة النطاق لدرجة باتت تعرف أكثر من بعض المدن المغربية.
بات الرواج فيها لا يتوقف، وظاهرة البواخر التي ترسي على ميناء أبو رقراق منحتها رونقاً عصرياً جديداً.
معظم السياح الذين زاروا القصبة يقولون شهادات إيجابية جداً في حقها، وكل الفنانين يغرمون بها وينجذبون إليها، جل المغاربة يفتخرون بها وبتاريخهم.
مملكتنا
—————
بقلم سكينة الإدريسي