- لعلّ أهمّ تمثّل للمخيال البشري للكتابة التقليديّة بأدواتها المعروفة من ورق وحبر وقلم هو ما أنتجه العرب في تصورهم للكتابة باعتبارها فعل إخصاب وتوليد وضمان ديمومة النوع الإنساني وتواصله في الكون إنّ النظر في بعض النصوص العربيّة القديمة يدعّم ما ذهبنا إليه سواء تعلّق الأمر بفعل الكتابة في مفهومها المجرّد أي الكتابة بمعزل عن مضمونها ومنظورا إليها في مستواها المادي والتقني أو في مفهومها الإنشائي والإبداعي.
يكفي أن نتأمّل في “مادة حبر” في لسان العرب لابن منظور حتّى نتبين ما ذهبنا إليه فالعرب لا يكادون يستعملون مادة “حبر” ومشتقّاتها إلّا للدلالة على كلّ ما هو إيجابيّ. فعلاوة على معاني الحبر، أي المداد الذي يكتب به والوشي على الثياب والأثر على الجلد من وشم وغيره والأثر على كلّ شيء، يطلقون الحبر على العالم والرجل الصالح والرجل الناعم وعلى السرور أي الحبور وعلى النعمة والهناء والإكرام والتحبير على حسن الخطّ والمنطق وتحسين الصوت. ثمّ يتدرّجون شيئا فشيئا في استعمال هذا الجذر ومشتقّاته إلى أن يصلوا إلى ربطه مباشرة بالخصوبة والنّماء.
يقول ابن منظور “والحبير هو السحاب وقيل الحبير من السحاب الذي ترى فيه كالتنمير من كثرة مائه” ثمّ يضيف “وأرض محبار: سريعة النبات حسنته كثيرة الكلأ (…) الأرض السريعة النبات السهلة الدفئة التي ببطون الأرض وسرارتها وأراضتها، فتلك المحابير وحبرت الأرض وأحبرت (أي أنبتت)“. قبل أن ينتقل معرّفا المحبرة بقوله “ويقال للآنية التي يجعل فيها الحبر من خزف كان أو من قوارير: محبرة ومحبرة كما يقال مزرعة ومقبرة ومخبزة”.
وخير من يهدينا كذلك إلى ربط الكتابة عند العرب بدلالات الخصوبة والنماء هو تفسيرهم للأحلام، تفسير تناقلته الأجيال مشافهة جيلا بعد جيل ونسبته إلى محمد بن سيرين، وإن كان في الحقيقة إن لم يكن كلّه ففي معظمه من إنتاج المخيال الجمعي ومن إبداع شعبي جماعي تراكم طيلة قرون. ما يهمّنا في هذا التفسير الذي هو في الحقيقة تأويل للواقع، هنا واقع الكتابة وتمثّلها الجماعي، أكثر ممّا هو تأويل للحلم، هو تفسير رؤية الكتابة وأدواتها في المنام “القلم والدواة والمداد والورق”.
|
ومن البديهي أنّنا سنقوم بتأويل الكتابة وأدواتها في الأحلام في مرحلة أولى وربطها بما عرضنا له في تعريف ابن منظور لمادة حبر في لسان العرب لنذهب أعمق ما يمكن في فهم فعل الكتابة عند العرب باعتباره ليس تعميرا للورق فقط وإنّما تعميرا للكون برمّته وذلك بالبذر فيه وإنمائه. فرؤية القلم في المنام حسب هذا التفسير “تدلّ على ما يذكر الإنسان به كالولد الذكر وربّما دلّ على الذكر. والمداد نطفته. وما يكتب فيه منكوحة وربّما دلّ على السكة والأصابع أزواجه ومداده بذرها (…) وقيل القلم ولد الكاتب ورأى رجل كأنّه نال قلما فقصّ رؤياه على معبر فقيل له يولّد لك غلام يتعلّم علما حسنا” أمّا الدواة فهي “خادمة ومنفعة من قبل امرأة. فمن رأى أنّه يكتب من دواة اشترى خادمة ووطئها”.
وقال أكثر المعبرين “إنّ الدواة زوجة ومنكوح وكذلك المحبرة، إلّا أنّها بكر” والصحيفة “من نظر إليها ولم يقرأ ما فيها فهو ميراث يناله (…) ومن رأى أنّه وهبت له صحيفة، فوجد فيها رقعة ملفوفة فهي جارية وبها حبل”.
وأخيرا يذهب هذا التفسير إلى تأويل رؤية الكاتب نفسه في الأحلام والذي يعتبره أنّه “ذو حيلة وصناعة لطيفة مثل الإسكافيّ قلمه كالأشفى والإبرة والمداد كالشيء الذي يخرم به من خيوط وسيور وكالحجّام وقلمه مشرطته ومداده دمه وكالرقام والرفاه ونحوهما وربّما دلّ على الحرث، والقلم كالسكة والمداد كالبذر”.
ما يلفت الانتباه هو أنّ معاني الخصوبة والولادة والنماء وتجدّد الحياة في الطبيعة والنوع الإنساني المرتبطة بفعل الكتابة تستمدّ قيمتها من تحقيق الهناء والسعادة بتوفير الغذاء والذرّية ومدلولها من اعتبار الأرض والمرأة وجهين لحقيقة واحدة وحرثهما بل الكتابة فيهما هو شرط ضروريّ لخصوبتهما وولادتهما وتبعا لذلك تحقيق زينة الحياة الدنيا.
فكلّ الأدوات المستعملة في الكتابة هي في تشكّلها الرمزي وفي تمثّلات المخيال الجماعي لها أدوات لإخصاب الأرض ولإخصاب المرأة على حدّ السواء. فلتكون الأرض محبارا أي سريعة النبات كثيرة الكلأ، ومحبرة، بمعنى مزرعة أو (حتّى مخبزة بطريقة غير مباشرة، بمعنى توفّر الخبز وهو مادة العيش الأهمّ) لا بدّ من أن تمطر بمطر غزير ينبئ به حبير أي سحاب كثير الماء.