شــجـــر الأركــــان ذاكــــرة خـــالـــــدة

الجمعة 18 ديسمبر 2015 - 15:23

 شــجـــر الأركــــان ذاكــــرة خـــالـــــدة

“رباه ! أين الخيرات التي كانت تصطف على طول جدران أسواري من زيت “أركان” وزبدة وألبان وبيض ودجاج وفواكه؟ وأسفاه على ما حل بي ودهاني! دكاكين شوارعي أضحت اليوم بزارات، ومنازلي القديمة تحول جلها إلى “رياضات” …أتعرفونني من أنا؟  أنا ” تاسورت ” أو الصويرة أدعوني كما شئتم … كنت أضم كل ضيف طارق لبابي وأغلق أبواب أسواري كل ليلة حتى ينعم ضيوفي بالأمن والاستقرار وتستجيب لي كل هذه الأبواب بأسمائها طائعة : باب دكالة، باب مراكش، باب السبع، باب الكرمة… وأكثر من هذا يا من لا يعرفني فأنا التي أوصلت مادة السكر بقوافلي التجارية إلى قلب بعض الدول  الإفريقية  واحتضنت  بأدرعي الحنونة كل أبنائي البررة من أمازيغ وعرب ويهود…”.
نعم من هنا بجانب بحر “تاسورت” مرت حضارات عدة سلبت بآثارها قلوب السياح سلبا، وأزت بأمواج بحرها عقول الزوار أزا، وسحرت المارة بـ”أركان” مناطقها سحرا، إنها اليوم تئن وتسائل قبابها وأبراجها وتشهد النورس على زخم أسئلتها، ألست مدينة الفقراء؟ فلم يحرجونني مع ضيوفي البسطاء الذين عهدتهم قبل زمان من كل مكان؟ ألا يدرون أن الحرة تجوع ولا تأكل من ثديها؟ وأن الحرية الحقيقية تأبى على صاحبها أن يستعبده أي معنى أرضي من مال، أو شهوة، أو هوى، أو غير ذلك؟252539

بصمات الصويرة في أدهان أهاليها …

ابتلعت بحرج شديد كل هذه الأسئلة مطأطأ الرأس وأنا فوق مدفع نحاسي ببناية ” الصقالة ” يعود تاريخه إلى سنة 1778 م، أتأمل بحر هذه المدينة الساحرة وشمس الغروب تلقي بأشعتها الذهبية على البحر، ومكثت مليا فإذا بشريط تاريخي مختزل الزمن يمر بين عيني، إنها “تاسورت” كما عرفناها ونحن صغار قبل أربعين سنة وقبل ردح من الزمن، فهي التي كان يقصدها السكان البسطاء من قبائل “إحاحان” و”الشياظمة” بعدما تكيفوا مع تواضعها وعيشها المضياف.

 ففي الصباح الباكر حيث البرد القارس، وحيث الشوارع كلها مبللة بندى الرطوبة، وحيث الصمت والضجيج يمتزجان، يستقبلك صياح النورس على نغمات قوائم خيول “الكوتشي”، ونداءات أصحاب العربات اليدوية (بالاك) المختلط مع حفيف الرياح، وصمت المارة الملففين في جلابيبهم الصوفية القاصدين مقرات عملهم، فيما يقصد هواة الشاي المنعنع أو المشيب المعطر جناحا من المدينة يدعى “الخبازات” حيث تصطف المطاعم الشعبية كلها وتعم المكان رائحة الفول المطهى في قدر الطين (البيصارة) والفاصوليا والحمص والعدس، وكان الزبناء يتربعون جماعات فوق الحصير ويتحف صاحب المطعم زبناءه بأغان زمانهم المتنوعة أمثال السلاوي وبوشعيب البيضاوي والنغمة المرساوية والنغمات الأمازيغية كالحاج عمر واهروش والحاج المهدي بن مبارك وذلك  طبقا للمزيج اللغوي الذي تعيشه منطقة ” تاسورت”.

أركان ” تاسورت” يحكي …

غادرت المدينة ولم تغادرني في اتجاه غير بعيد عنها، إنها غابات “أركان” جماعة سيدي أحمد أحامد، وفي طريقي تلوح أشجار أركان يمنة ويسرة ما كدت أفهم إشاراتها حتى دنوت قرب أقدم شجرة بالجماعة  وكأني بلسان حالها مرددا :” أنا ” أركان ” أنا مفخرة المغرب، أنا أقدم شجرة بهذا البلد السعيد، أعلت الفقراء واليتامى والأرامل يوم قل الزاد، أنا من احتضن أبناء قبائل “إحاحان” وسوس وأيت باعمران وسقيتهم من زيتي وأخذت منهم موثقا ألا ينسوا جميلي ما استمر الزمن …لكن ماذا دهاني اليوم ؟ ما خلقت لأعرض على واجهات الزجاجات، وما خلقت لأن تفرغ بيوت أهالي من زيوتي، وما طاب لي عيش سوى بين ثغاء الماعز، وكم أنا سعيدة عندما أضمهم إلي بأغصاني، ولا أضيق بهذه المخلوقات التي أنا منها وهي مني، ولا أبالغ إن قلت أن اقتياتها مني يسعدني جدا فأضاعف الإنتاج تعبيرا مني عن سعادتي.

وأسفاه لقد مرت عجوز أمامي ولم تجد قبالتي ولو حبة واحدة، وتألمت كثيرا لأني ما كان سر وجودي إلا لإعالة هذه المسكينة التي لم تقو على العمل، تبا لكم يا أصحاب المشاريع الفارغة، فأنا شجرة عنيدة  وأفتخر… وأياديكم القذرة هربت منتوجي بامتياز وتهافتكم عن زيوتي أذهب خيراتي وعيشي لا يطيب إلا في أحضان الفقراء وكفى …”.

واصلت المسير بين أشجار ” أركان ” فعاودني الحنين إلى أيام الصبا لما كنت أرقب جدتي وهي تعصر زيت أركان وأنتظر أن تنهي العصير لتمنحني مستخلص الزيت من عجينة ” الزكمونة ” أمتص ما بقي منها من زيت أركان، في انتظار حصة ما كانت أمهاتنا تسميه “البسيس” وهو عجينة خليط دقيق “البندق” مع زيت أركان  يوزع على الأطفال الحاضرين لعصير أركان عقب انتهاء عملية تصفية الزيت، وقادتني الذاكرة أيضا إلى استحضار المسافات الطويلة التي كنا نقطعها ونحن صغار على ظهر الدابة إلى الغابات لجني حبات “أركان” واحدة تلو الأخرى، ولكثرة هذا المنتوج كان أباؤنا يراكمون بالقناطير هذه الغلة ويتركونها في الغابة زهاء شهر إلى حين انتهاء عملية الجني  ثم توزع على أفراد العائلة بالتساوي.

مملكتنا.م.ش.س

Loading

مقالات ذات صلة

الخميس 23 يناير 2025 - 09:13

توقعات أحوال الطقس اليوم الخميس

الأربعاء 22 يناير 2025 - 09:11

توقعات أحوال الطقس اليوم الأربعاء

الثلاثاء 21 يناير 2025 - 07:27

توقعات أحوال الطقس اليوم الثلاثاء

الإثنين 20 يناير 2025 - 07:55

توقعات أحوال الطقس لليوم الاثنين