جــوزيــــف بيتس مبحرا بين مدائن العــــــــــــرب

الأحد 5 يونيو 2016 - 16:23

جــوزيــــف بيتس مبحرا بين مدائن العــــــــــــرب

أهمية جوزيف بيتس تأتي من كونه أول إنكليزي يتمكن من زيارة مكة المكرمة وثاني أوروبي بعد البرتغالي لودفيكو دي فارتيما المعروف بالحاج يونس المصري، الذي قام برحلة امتدت من سنة 1503 إلى سنة 1509 زار فيها مصر والشام والحجاز واليمن وفارس والهند وإندونيسيا. وقد كان من ثمار هذه الزيارة تدوينه لمسار رحلته فنقل لنا فيها تفاعلات ذاته مع ما سمعه وما رآه وما عاشه خلالها. كما مكّنته إقامته الطويلة بين المسلمين من إنجاز كتاب هام سمّاه “حقائق عن الإسلام”.

تراوحت نظرة بيتس (الذي سمّى نفسه الحاج يوسف) للعوالم العربية المختلفة عما اعتاده في أوروبا، أثناء مساره الرحلي، سواء عبر مصر أو الحجاز، بين الموضوعية ومجانبة الصواب. ويُفسّر ذلك بكون إسلامه لم يتم بمحض إرادته، فكان يظهر الإسلام لكنه ظل على دينه المسيحي، فكان يصلّي بلا وضوء، وكان يصف المسلمين بأهل السبت، معتبرا أن يوم الجمعة هو يوم سبت المسلمين. وطبعت كثير من مواقفه بالتمركز العقدي الذي قاده إلى مقارنات بين المسيحية والإسلام. رغم أنّه ادعى الصدق فيما روى ويتحدى كل من نعته بالكذب.

العــــوالم العربيـــة

ولد بيتس حوالي سنة 1663 وبدافع من الرغبة في معرفة العالم حوله، في إطار ما يسميه الإنكليز بـ”الطواف الأعظم”، غادر إيكسون الإنكليزية وهو ما يزال شابا لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، واشتغل بحارا بإحدى السفن.

كانت حروب الجهاد البحري، التي كان يشنها البربر والموريسكيون المطرودون من الأندلس والأتراك على قوى الاستعمار الممثلة حينها في أسبانيا والبرتغال، ما تزال مشتعلة بالبحر الأبيض المتوسط. فوقع بيتس بين أيدي بحارة جزائريين اقتادوه أسيرا إلى الجزائر وباعوه في سوق العبيد.

بيع بيتس أكثر من مرة، حتى استقر به المقام لدى سيد جزائري اتخذه عبداً، وفرض عليه الدخول إلى الإسلام، لأن سيده كان في شبابه خليعا كثير الآثام، كما أنه كان قاتلا. لكن حين تقدّم به العمر، قرر محو ذنوبه بدعوة عبده بيتس إلى الإسلام. ولكي يكمل دينه اصطحبه معه في رحلته إلى الحج.

خرج بيتس رفقة سيده سنة 1680 ضمن ركب الحج الجزائري قاصدا مكة عبر البحر الأبيض المتوسط، لأنه كان أقل تكلفة وإرهاقا من السفر برا. وبعد 43 يوما وصلا إلى الإسكندرية التي مكثا بها زهاء عشرين يوما، مكّنته من التجول فيها، فنوّه إلى عظمتها قديماً، والتي تشهد عليها الأعمال المقنطرة تحت الأرض والقناة الأرضية التي تملأ آبارها من النيل لتزود المدينة بالماء العذب. وألقى نظرة على مساجدها وأسوارها التي كانت ما تزال قائمة وبواباته الحديدية وأعجب بمنارها الشهير، دون أن يفوّت الإشارة إلى الحركة الملاحية بالمدينة.

ثم ذهبا من هُناك إلى رشيد التي كانت بمثابة رابطة بين القاهرة والإسكندرية، وتحدث بيتس في هذه الرحلة النهرية عن النيل وأهميته التجارية والزراعية، وكلّ ما يتعلق به من حوادث؛ كان من أهمها نهب اللصوص لقوارب الحُجّاج الذين يكثرون في موسم الحج، والمبحرين من رشيد إلى القاهرة. وأكّد أنهم هوجموا من قِبل اللصوص وتلبّسهم الخوف فلم ينقذهم سوى إطلاقهم النار بالبنادق وهو جعل اللصوص يلوذون بالفرار.

مصــــر والحجــــــاز

قدم بيتس تقريرا مفصلا عن القاهرة، ألقى من خلاله نظرة على السكان وتمايزهم الديني (مسلمون وأقباط ويهود) الذي يظهر على شكل لباسهم. إذ لا يستطيع المرء التمييز بين قبطي ومسلم إلا من خلال العمائم.

تحدّث عن المنتجات المصرية وما يتوفر بالقاهرة من مواد أجنبية. وبسبب حركتها التجارية اعتبرها مستودعا للغرباء والتجار. كما عرّج على الأحوال الاجتماعية لسكانها؛ وأول ما لفت انتباهه في هذا الصدد هو وقائع الفجور والانحلال التي اعتبرها خطيئة ووباء، ودعا أهل بلده إلى الاحتراس منها.

أشار بيتس إلى أسعار مصر الرخيصة ومساجدها التي تبلغ 5 أو 6 آلاف مسجد، وفنادقها وخاناتها وتعدّد لغاتها التي لا تقل عن 72 لغة، وكذا ازدحام شوارعها الضيقة.

 
جوزيف بيتس يصف كيف دخل مع الحجيج إلى مكة من شارع كبير يتوسطها يقود إلى الحرم، توضأ افراد القافلة ودخلوا الحرم المكي من باب السلام ملبين، فتأثر الأسير بالتلبية والمناسك
 

ذُهل أمام أهراماتها، دون أن يغفل الحديث عن وسائل النقل والمواصلات بها وبشكل خاص الحمير، وأيضا باعة الماء، ووقود الأفران، وكيف كان القاهريون يتزوّدون بالحليب، مؤكدا أن كل الضروريات كانت تصل إلى سكانها حتى أبوابهم، ليشتروا ما شاءوا.

بما أنه كان أسيراً، كان من الطبيعي لبيتس أن يلتفت إلى سوق الجواري اللواتي جلب الأتراك معظمهن من روسيا وألمانيا، وكيف كانوا يقدمونهن في أفخر الملابس. ورغم أن النسوة كنّ محجبات، كان التاجر يتمتع بالحق في النظر إلى وجوههن وفحص أسنانهن وأثدائهن والتأكد من عذريتهن.

هنا أكد بيتس أن هؤلاء القيان لم يكنّ يجبرن على اعتناق الإسلام، كما عانى هو من ذلك بالجزائر، كما أكد على وضعية العبيد بعد دخولهم الإسلام، إذ يصبح بمستطاعهم الذهاب إلى المدارس، وتصير لهم حظوة ويشغلون الوظائف العليا في البلد.

بحسّه الملتقط لما هو مختلف ولافت، بدا له أن طباع المصريين تتسم بالفظاظة والانفعال وسلاطة اللسان، مع أنهم قلّما يدخلون في معارك، كما أنهم بارعون في الاحتيال والغش، خاصة مع الغرباء. علاوة على الاعتداء عليهم، رغم ما يتعرضون له من عقاب. ولفتت انتباهه كثرة المتسوّلين الذين فاق عددهم كل تصوراته، منتبهاً إلى قوة الحمالين التي أدهشته.

تزود ركب الحج الجزائري بمؤن تكفيه لمدة أربعة أشهر واستأجر جمالا لتنقله إلى السويس، حيث تم شراء الماء العذب. وأبحر الحجيج يومين ورسوا بمدينة الطور ليتزوّدوا بالفواكه. لقد عانوا كثيراً من صعوبات الإبحار في البحر الأحمر بسبب كثرة الصخور والمسار الذي استغرق شهرا كاملاً.

بعد وصولهم إلى رابغ (السعودية اليوم) ارتدوا لباس الإحرام. ومنها انتقلوا إلى جدة، حيث وجدوا الأدلاّء الذين يدلّونهم على كيفية أداء المناسك، بسبب جهل معظم الحجاج بها.

سافروا من جدة إلى مكة، ودخلوها من شارع كبير يتوسّطها يقود إلى الحرم، توضأ أفراد القافلة و دخلوا الحرم المكي من باب السلام ملبّين، فتأثر بيتس بتلبية الحجاج، ولم يستطع أن يكبت دموعه حين رأى حماسهم رغم أنه كان يتظاهر بالإسلام.

كما تأثر عند الوقوف بعرفات قائلا “لقد كان مشهدا يخلب اللبّ حقا أن ترى هذه الآلاف المؤلفة في لباس التواضع والتجرد من ملذات الدنيا، برؤوسهم العارية وقد بللت الدموع وجناتهم، وأن تسمع تضرعاتهم طالبين الغفران والصفح لبدء حياة جديدة، وتستمر هذه التضرعات وتلك الابتهالات طوال أربع ساعات أو خمس أو حتى يحين ميعاد صلاة العشاء، وإنه لأمر يدعو للأسف أن نقارن ذلك بالخلافات الكثيرة بين المسيحيين”.

بيتس وشمس مكــــة

في وصف الحرم قال بيتس: كان للحرم 42 بابا، وداخله توجد أماكن للمتعبدين والدارسين، أما الكعبة فكانت مكسوة بالأسود ومطرّزة بالذهب. ولم يعرف بيتس ما كان مكتوبا عليها. باب الكعبة كان بارتفاع قامة الإنسان، يفتح مرتين كل ستة أسابيع، يوم للرجال ويوم للنساء، وقد دخل بيتس الكعبة مرتين أثناء إقامته في مكة.

تحدث عن ماء زمزم وكيف يقدّسه المسلمون كما يقدس الكاثوليك ماءهم، رغم أنه بدا لبيتس ماء عاديا. لكنه لم يفوّت الفرصة للسخرية من بعض المعتقدات المتعلقة بالحج كرجم الشيطان. كما استغرب من مكّة ومبانيها التي بدت له عادية جدا وغير مؤهلة لاستقبال آلاف الحجاج، لكن حين سأل توصل إلى أن أهل مكة يفرغون أماكنهم للحجاج ويؤجّرونها لهم لفترة لا تزيد عن16 أو 17 يوما، بمبلغ يزيد عن إيجارها طول العام ثلاث مرات.

أثارت حرارة مكة الشديدة بيتس، ورأى كيف كانت تفرض على السكان النوم على أسطح المنازل تلمّساً لنسمات الهواء.

 
القاهرة القديمة يصفها بيتس بأنها كانت مستودعا للغرباء والمهاجرين والثقافات تستخدم فيها 72 لغة، سكانها من المسلمين والأقباط واليهود تميّزهم فقط ملابسهم
 

قال إن أهل مكة بدوا بائسين ونحيلين. ووصف الأشخاص الذين يعيشون من خدمة الحجيج. كما عاب على مكة قلة النظافة وانتشار السرقة حين قال “أما من ناحية النظافة فهي مساوية للقاهرة، ولكن اللصوص لا يتورّعون عن السرقة حتى في الحرم ذاته”.

وأنهى حديثه عن مكة بالحديث عن الحج باحتفالات الحجاج الذين يعتقدون أنهم محوا ذنوبهم، وأن الجنة ستكون من نصيبهم. واصفاً الحالة النفسية المؤثرة للحجاج لحظة مغادرتهم للبيت الحرام.

ووصف كيف أن الحجاج كانوا لا يديرون ظهورهم للكعبة احتراما لها، بل يرفعون أيديهم إلى السماء ويدعون ويسيرون للخلف وهم في مواجهة الكعبة، ويظل حالهم هكذا إلى أن تختفي الكعبة عن الأنظار وبعدها يسيرون بشكل طبيعي.

استأجروا جمالا للنقل وخرجوا من مكة في هرج ومرج وغياب للنظام وما سبّبه ذلك من معارك ومشاجرات. وقد وجدها بيتس مناسبة ليفصّل الحديث عن نظام القوافل وكيف تسير ومحطات توقفها، وكيف كانوا يتزوّدون بالماء وكيف كانوا يقضون حاجتهم. كما ألقى نظرة على نشاط قُطاع الطرق ومكائدهم، ما بين مكة والمدينة المنورة، وكيف كانوا يُوقعون بالحُجاج أثناء نومهم.

بعد عشرة أيام من السير وصلوا إلى المدينة المنورة حيث قضوا يومين. فبدَت له بلدة متواضعة يطوّقها سُور. وتحتوي مسجدا كبيرا لا يقارن بالحرم المكي. كما فصّل الحديث عن قبر الرسول وعن تأثر الحجاج برؤيته، وما يتعلّق به من معتقدات، وأكّد أن المدينة كانت تتزوّد بالمؤن عن طريق الحبشة.

أي الأوطـــــــــــــــان وطن بيتس

في طريق عودتهم إلى الجزائر مروا عبر القاهرة والإسكندرية، حيث وجدوا الطاعون منتشراً فأصيب الحجاج بالعدوى. عاد بيتس إلى الجزائر فعاد الطاعون لمحاصرته، لكنه نجا منه ثانية.

يقال إن سيده بعد أن وصل إلى الجزائر، أعتق بيتس ومنحه حريته بعد سنوات في العبودية. إذ يذكر الرحالة الإنكليزي الشهير ريتشارد بيرتون أن سيد بيتس وبعد أدائه لفريضة الحج، قام بإعتاقه “بمنزلة ابن له، وكتب له ما يفيد عتقه، فعاد بيتس -باختياره- إلى الجزائر وعاش مع سيده السابق سنوات طويلة قبل أن يفكر في الهرب. وهذه المدة الطويلة كانت كافية كي تجعله ملمّا بكثير من المعلومات عن المسلمين وعن أحوال البلاد التي رآها، بالرغم من أنه لم يحظ بقسط كاف من التعليم” فكتاباته كما يقول بيرتون “تخلو من الأحكام المسبقة والتعصب والميل للخرافة، كما أنه لم يكن ساذجًا رغم صغر سنه”.

ويشير بيرتون إلى أن بيتس سعى للعثور على وسيلة تمكّنه من مغادرة الجزائر، فانخرط في سلك الجندية، وأصبح من أفراد كوكبة الخيالة التي أرسلها السلطان العثماني إلى الجزائر. وعندما أرسل السلطان العثماني للجزائر طالبا بعض سفنه، سُمح لبيتس بالركوب على متن إحداها، ورحل إلى أزمير التركية.

تردّد كثيرا بعدها، وفكّر في العودة إلى الجزائر، لكنه لم يعد. عاش فترة عناء في تركيا، كان يخشى من أن يموت ويدفن في مقابر اليهود، وكان اليهود قد طردوا من أوروبا وأخذوا على المسلمين عهداً لحمايتهم.

أعانه أحد التجار ببعض الجنيهات مكّنته من السفر إلى جنوة وحين وصل إلى هناك حمد الله على عودته للأرض المسيحية، ومنها استكمل طوافه فجاب إيطاليا وألمانيا وهولندا، حيث استقبل بترحاب.

لكنه حينما عاد إلى إنكلترا واجه العديد من المتاعب فندم على ترك البلاد العربية. وفي ما بعد استقامت أموره، والتقى بأبيه، أما والدته فقد وجدها قضت قبل وصوله بسنة تقريبا. كتب بيتس كتابا عن الإسلام عام 1704 فJلاقى انتشاراً واسعا في إنكلترا .

مملكتنا.م.ش.س/عرب 

Loading

مقالات ذات صلة

السبت 1 فبراير 2025 - 21:36

الحاجة لأمل “متجول ” و ليس لعدمية “متجولة”

الخميس 8 سبتمبر 2022 - 15:49

شخصيات دينية اسلامية ومسيحية تشيد بالدور الرائد لجلالة الملك في الدفاع عن الطابع الخاص لمدينة القدس

الأربعاء 3 أغسطس 2022 - 18:48

العرائش .. توزيع إعانات مالية على أصحاب المنازل المتضررة من حريق غابة جبل العلم

الخميس 28 يوليو 2022 - 11:08

مجلس الحكومة يصادق على مقترحات تعيين في مناصب عليا