عادل بعيز
قرأت مقالا يتحدث عن العائلة والرمزية السياسية في إقليم تاونات لأحد الاعلاميين المحترمين. أعجبني بعض مما جاء فيه، كما نال حفيظتي واستغرابي في بعض اخر، وإيمانا بالحوار كأداة لتدبير الاختلاف في وجهات النظر ، وجدت أنه من المهم أن أدلو بوجهة نظري.
عانى إقليم تاونات لسنوات طويلة من الممارسة التقليدية للسياسة، حيث امتزجت السلطة بالمال لصناعة رمزية قائمة على الولاء القبلي، وهذا ما يعرف في القاموس السياسي المغربي بنفوذ “الأعيان” حيث تسللت بعض العائلات الى حظوة المخزن بطريق أو بأخرى خاصة في عهد ادريس البصري. هذا النفوذ لم يأت من انتخابات نزيهة أو منافسة ديمقراطية، بل من الولاءات والتحكم، وباستعمال الخوف والوعود الفارغة والسيطرة على إرادة الناس. هذه الطريقة خلقت بيئة شعر المواطنون فيها بالعجز وأن التغيير مستحيل وأن مقاومة الوضع القائم ضرب من ضروب الخيال.
هذا النموذج الذي انتشر في عهد إدريس البصري عندما (خفض الكرام ورفع اللئام)، وجد طريقه إلى تاونات عبر عائلة اكتسبت حظوة المخزن (بطريقة أو بأخرى). لم يكون حضور هذه العائلة في الحياة السياسية حضورا متتفردا بقدر ما كان حضورا شاذا سياسيا، لم يكن يوفرا استقرارا بقدر ما أدى إلى جمود كبير وعطل زمن التنمية، وجعل الإقليم يدفع الثمن غاليا.
أما القول إن غياب شخصية عبو (الرمزية) أفقد الإقليم قوته في الرباط، ليس سوى مزحة ثقيلة. لا يوجد ما يدعمها في أرض الواقع ولا شاهدا من (غير البشر) على ذلك لا في البنيان ولا في الأطلال،
، لا مشاريع تنموية كبرى أو إنجازات واضحة تثبت هذه القوة المزعومة.
ورغم المبالغة في تعداد مناقب عبو ، بشكل يوحي أن هذه المرحلة كانت مثالية، لكن يتم تجاهل أثرها الفعلي على الاقتصاد والمجتمع، لأن في الأخير العبرة بأثر هذه الحقبة على مستوى نمو وازدهار الإقليم. ما رأيناه في الواقع هو أن هذه الهيمنة أدت إلى نتيجتين فقط: توريث سياسي وتأخر في التنمية.
وأتساءل هل غياب الزعامة الرمزية فعلا هو سبب مشاكل الإقليم اليوم؟ هل الاقليم يواجه بالفعل أزمة في القيادة؟ أم أننا نشهد بداية تحرر من مرحلة كانت قائمة على التحكم والهيمنة.
من يعرف حركة التاريخ يعلم أن كل وضع جامد يولد في النهاية التغيير. أوروبا عاشت قرونا من “الاستقرار” تحت سلطة الكنيسة والحاكم المطلق في العهد القروسطي، حتى جاءت الثورة الفرنسية وقطعت مع ذلك الماضي بشعار أكثر قسوة (اشنقوا اخر قسيس بأمعاء اخر طاغية)، لتحطم قلاع الأصنام السياسية. كتب إيتيان دو لا بويسي (كاتب فرنسي) قبل قرون مقلته في “العبودية المختارة” ، وكيف أن الناس أحيانا يتعودون على الاستبداد ويخشون الحرية أكثر من استمرار الظلم، وأن الكثير منهم يقبلون العيش تحت الاستبداد بإرادتهم، حتى لو لم يجبرهم أحد. البشر بطبعهم يميلون للخضوع للسلطة حتى لو كانت ظالمة، وبعضهم يخاف من الحرية نفسها، فيفضل بقاء الوضع كما هو بدل مواجهة التغيير.
عودة إلى موضوع صعود قوى سياسية جديدة في الإقليم، من الضروري أن نقرأ هذه الظاهرة في سياق تاريخي. والتاريخ يمكن فهمه بطريقتين أساسيتين: إما بمنظور ابن خلدون، حيث تمر كل قوة أو سلطة بدورة طبيعية (الدورة الحضارية) تبدأ بالميلاد، ثم الازدهار، ثم التدهور، وأخيراً الزوال، تحت تأثير عوامل العصبية القبلية أو العرق أو طبيعة الحكم. أو ننظر إليه بمنهج هيجل الجدلي، الذي يقوم على نفي الوضع القائم ودفعه نحو التغيير عبر الصراع بين الأفكار والقوى (المادية الجدلية).
.إذا طبقنا هذا على إقليم تاونات نجد أن حالة الجمود والهيمنة التي فرضتها العائلة المسيطرة لم يكن مصيرها إلا الزوال، بل إن تسارع هذه الهيمنة وإغداق السيطرة كان يسرّع نهايتها، التاريخ دائما يحاكم بقسوة.
أما فكرة البحث عن “شخصية جامعة” تعيدنا إلى نموذج عبو، هذا إذا سلمنا أن عبو كان شخصية جامعة، فهي أقرب إلى المطالبة بإحياء أنظمة شمولية مثل النظام الستاليني حيث يتوحد البلاشفة تحت فوهة المدفع، أو الحكم الأموي في أوج جبروت الحجاج حيث يضرب رقاب كل مخالف.
صعود قوى سياسية جديدة في الإقليم لم يكن مجرد احتمال، بل كان ضرورة ومطلبا ملحا. فالطبيعة لا تقبل الفراغ، وخاصة في مجال السياسة الذي يتغير كل يوم. والسياسة مثل أي ظاهرة طبيعية، تخضع لقانون البقاء للأقوى. لذلك فإن بروز قيادات شابة مثل (السلاسي والميسوري..) يعكس فشل النماذج السابقة، فينتقل السياسي كرجل الاقتصاد من الميكرو الى الماكرو، السياسي الذي لا يملك طموح التطوير لا يستحق أصلا أن يمارس السياسة، لأنها ميدان الطموحين لا المتقاعسين، والمجتمع بدوره مطالب بدعم هذا التغير .
مملكتنا.م.ش.س