سلمى حبيبي .. فراشة السينما المغربية التي كتبت بالضوء سيرة النساء

الثلاثاء 2 سبتمبر 2025 - 10:07

محمود هرواك

في حضرة البدايات .. ولادة فراشة على شاطئ الشمال

ثمة نساء يولدن مرتين: مرة من رحم أمهاتهن، ومرة من رحم الفن! وسلمى حبيبي، ابنة تطوان، وُلدت للمرة الثانية حين قررت أن تجعل مِن جسدها جسراً لعبور قضايا النساء إلى شاشة السينما. لم تكن طفلة عادية، كانت تلمح في المرآة وجهاً مرسوماً للتمثيل، ممهوراً بالشغف، تائهاً بين الحلم والالتزام. وفي الأزقة المبللة برائحة المتوسط، تعلّمت كيف تكون اللغة جسداً، وكيف يكون الجسد حكاية، وكيف يكون الحلم سلاحاً ضد النسيان.

هي عزيزتي القارئة عزيزي القارئ فراشة، نعم، لكن أجنحتها ليست من حرير هشّ، بل من صبر وتحدٍ قلما يوجد نظيرهما. تعمل كما تعمل العصفورة البَيُوضَة: بذكاء حذر، وخفة عاشقة، وإصرار لا يعرف الكلل ولا الملل..

✦ من طفولة الحلم إلى نضج التجربة

ولدت سلمى حبيبي في مدينة تطوان، حيث البياض يغطّي الجدران والبحر يعلّم الأطفال معنى الرحابة. في طفولتها، كانت أكثر ميلاً إلى العزلة التأملية، تراقب الناس كأنها تحفظ تفاصيلهم لتعيد رسمها يوماً على الشاشة. لم تكن طفلة صاخبة، بل طفلة حالمة، تحمل في عينيها فضولاً أكبر من سنها، وتستعير من البحر صمته ومن الأزقة ضجيجها، لتصوغ عالمها الخاص.

في شبابها، بدأت تتفتح على عالم الفن. كانت المرحلة مليئة بالأسئلة والتمرد، بين تقاليد تريد أن تضع للمرأة حدوداً، وأحلام تحاول أن تكسر تلك الحدود والقيود.. عرفت معنى الشغف حين دخلت قاعات السينما الأولى، هناك حيث الظلام يتحوّل إلى ضوء، وحيث الحكايات تخرج من الشاشة لتسكنها. تلك اللحظة لم تكن هواية عابرة، بل ولادة ثالثة، ولادة الوعي بأن الفن قدرها.

أما حين بلغت النضج، فقد غدت امرأة تعرف جيداً ماذا تريد؛ لم تعد الفتاة الحالمة التي تكتفي بالمشاهدة، بل أصبحت الممثلة التي تُشاهد، والمنتجة التي تُقرر، والزوجة التي تتقاسم مع شريكها (المخرج محمود فريطس) تفاصيل الحلم السينمائي. النضج عندها لم يكن تخلياً عن الأحلام، بل ترسيخاً ومواصلة لها. صارت أكثر وعياً بكونها مسؤولة أمام جمهور كبير عريض، وأمام نساء يشبهنها في القرى كما المدن، ينتظرن منها أن تمنح صوتاً لآلامهن وأحلامهن.

إنها حياة تتوزع بين طفولة مطرزة بالبراءة، وشباب مشبع بالتمرّد، وكهولة أنيقة بالإنجاز. سلمى حبيبي سارت في دربها كمن يعزف على آلة نادرة: تبدأ بلمسات خجولة، ثم تزداد ثقة، لتتحوّل في النهاية إلى سيمفونية كاملة، تُعزف في ذاكرة السينما المغربية.

“القانون لا يحمي العذارى” .. صرخة الميلاد الفني

ظهرت لأول مرة على الشاشة في عمل سيظل محفوراً في الذاكرة: “القانون لا يحمي العذارى”. لم يكن مجرد فيلم، بل كان صرخة داخل مجتمع مأزوم، تذكيراً بأن الطفولة المغتصبة ليست جريمة صامتة، وأن السينما يمكن أن تكون مرآة دامعة. يومها، وضعت سلمى أول بصمتها، كأنها تقول: “أنا هنا، لن أمثل لأجل التسلية، بل لأجل الرسالة”.

لم تختر السهولة، ولم تذهب إلى أدوار الزينة، بل دخلت مباشرة إلى منطقة النار، حيث تحترق القلوب، وحيث يحتاج الفن إلى جسد يغامر وصوت يصدح.

“الموءودة” .. حين حلقَت شعرها لتقصّ حكاية النساء

لكن التتويج الحقيقي لحضورها جاء مع “الموءودة”. هناك، جسّدت دور “حياة”، امرأة تعبر مراحل المراهقة إلى الأمومة، امرأة محاصرة بالتمييز والعنف، امرأة تكاد تكون مرآة لكل نساء المغرب. وفي لحظة مفصلية، اختارت أن تحلق شعرها كاملاً أمام الكاميرا، في مشهد تصويري اختير له يوم 8 مارس، لتجعل من جسدها نصاً، ومن رأسها المنكسر راية احتجاج.

لم يكن ذلك مجرد مشهد، بل كان فعل تضامن، رسالة فنية بقدر ما هي سياسية: أن المرأة الموءودة في القوانين والتقاليد يمكن أن تولد من جديد، بجرأة ممثلة آمنت بأن الفن ليس لعبة، بل نضال وقدر.

بين السينما والتلفزيون .. من “وريقات الحب” إلى “أنا أو ڤانتي”

بعد أن رسّخت اسمها في السينما، خاضت مغامرات أخرى: فيلم “وريقات الحب”, ثم انتقالها إلى التلفزيون عبر السلسلة الرمضانية “أنا أو ڤانتي”. هناك، أظهرت جانباً آخر من موهبتها: القدرة على الانسياب في الكوميديا والرومانسية، والوقوف جنباً إلى جنب مع أيقونات الشاشة المغربية مثل العزيزة علينا فضيلة بنموسى.

سلمى لم تكن أسيرة قالب واحد، بل شجرة تتفرع أغصانها في كل اتجاه، تبحث عن الشمس في السينما، وتستظل بالضحكة في التلفزيون.

التكريمات: حين تصير البلوزة الوجدية وساماً

من وجدة إلى تطوان، حملت أعمالها رسائل وكرّمتها المهرجانات. في المهرجان الدولي لفيلم الهواة بوجدة، وقفت أنيقة ببلوزة وجدّية وقالت إنها أجمل لباس ارتدته. لم تكن مجرد عبارة، بل كانت استعارة لوطن تحمله في القلب. وفي مهرجان الريف للفيلم الأمازيغي، كانت ضيفة شرف، وهناك أكدت أن التزامها بقضايا النساء ليس عابراً، بل جوهر رسالتها.

بين الكاميرا والمهرجانات .. شراكة مع حبها الأبدي محمود فريطس

الحب في حياة سلمى ليس بعيداً عن الفن، فقد جمعتها الحياة والفن مع زوجها المخرج محمود فريطس. معاً، وقفا خلف فيلم “الموءودة”، ومعاً نظما مهرجان تطاون للسينما تحت شعار “سينما الحب والسلام”. كأن قدرها أن تعيش الفن مرتين: كممثلة أمام الكاميرا، وكسيدة مهرجانات خلف الستار.

الرسالة والجرح .. “أنا حزينة لأني ممثلة مغربية”

رغم كل الأضواء، صرحت ذات يوم: “أنا حزينة لأني ممثلة مغربية”. لم يكن ذلك تنكراً للوطن، بل اعترافاً بمرارة الطريق: تحرشات، عراقيل، قلة دعم، ومجتمع أحياناً لا يحتفي إلا بالوجوه الأجنبية… لكنها، في مقابل هذا الجرح، اختارت أن تحوّله إلى نداء: بأن الفنان المغربي يستحق الاحترام، وأن المرأة في الفن ليست جسداً فقط بل روحاً ورسالة.

أجنحة المستقبل .. فيلم جديد ووعود أوروبية

اليوم، تستعد سلمى لمغامرة جديدة مع المخرج ياسين فنان، وفيلم روائي يجري التحضير له بين المغرب وأوروبا، في قالب رومانسي يختلف عن أعمالها السابقة. هي لا تعرف التكرار، ولا تقبل الاستكانة، بل تمضي كفراشة لا تستقر على زهرة واحدة بل من وردة لوردة، كنسمة تعانق ربيعاً بعد آخر.

خاتمة .. فراشة لا تنطفئ !

هكذا إذن، سلمى حبيبي ليست مجرد ممثلة، بل قصيدة تمشي على قدمين، امرأة تحوّلت إلى جسر بين القضايا والسينما، بين الجرح والفرح، بين الوطن والإنسانية. في كل دور تجسده، تسكنها نساء كثيرات: الطفلة المقهورة، الأم الحنون، المرأة الثائرة المتحررة المتمردة، والإنسانة التي تحلم بعدالة أكثر رحابة.

إنها فراشة السينما المغربية .. لا تنطفئ، لأنها وُجدت لتضيء.

✦ شهادة ناقد .. صوتٌ لا يشبه سواه

كتب أحد النقاد وهو يتأمل مسيرة سلمى حبيبي:
“ليست سلمى مجرد ممثلة عابرة، ولا وجهًا يطلّ على الشاشة ليُنسى مع آخر مشهد. إنها من طينة نادرة، ممثلات يملكن القدرة على تحويل الدور إلى قدر، والمشهد إلى وثيقة. حين تؤدي، لا نرى شخصية متخيلة، بل نرى حياة كاملة تُستعاد أمامنا، بملامحها، بانكساراتها، بأحلامها.”
ويضيف الناقد:
“الممثلة التي حلقت شعرها تضامناً مع نساء المغرب، لا يمكن أن تكون ممثلة عادية. إنها فنانة تؤمن أن السينما ليست ترفاً، بل صراعاً، وأن التمثيل ليس مهنة، بل رسالة. حضورها أشبه بنقطة ضوء صغيرة، لكنها قادرة على اختراق العتمة. وفي زمن يلهث فيه كثيرون وراء الشهرة الفارغة، تبقى سلمى شاهدة على أن الفن الأصيل هو ذاك الذي يجرح ليوقظ، ويعانق ليشفي.”
هكذا، يختصر الناقد أثرها في عبارة واحدة:


“سلمى حبيبي … ليست ممثلة فحسب، بل ذاكرة نسائية تمشي على شاشة.”

مملكتنا.م.ش.س

Loading

مقالات ذات صلة

الإثنين 1 سبتمبر 2025 - 18:49

محمد الرفاعي .. من وراء الستار إلى صدارة الأضواء

الإثنين 1 سبتمبر 2025 - 11:05

المهرجان الدولي للفيلم بمراكش يعزز فعالياته المهنية تحت مظلة “برامج الأطلس” (بلاغ)

الأحد 31 أغسطس 2025 - 22:11

اختتام مهرجان سينما الشاطئ بالهرهورة بتتويج فيلم “أبي لم يمت” بالجائزة الكبرى

الأحد 31 أغسطس 2025 - 20:14

مهرجان البندقية السينمائي الدولي .. المغرب “شريك استراتيجي” في مجال الإنتاج السينمائي المشترك (لقاء)