محمود هرواك
عندما يُذكر اسم نعمان لحلو، لا يُستدعى مجرد فنان أو صوت مغربي مرّ من مسرح أو مهرجان، بل يُستحضر عالم كامل من الرموز التاريخية والمعاني العميقة، كأننا نستدعي مكتبة حية من الأصوات والصور والذكريات… إنّه أحد أولئك الذين تتجاوز سيرتهم حدود المهنة الضيقة، فهو المغني، والملحن، والمفكر، والرحالة، والأستاذ، والمتأمل تارة في صمت وأخرى في كلام ليس كأي الكلام… رجل يشبه المغرب ذاته: متنوع الألوان، متشابك الطبقات، عصي على التبسيط، ممتدّ بين الماضي الأندلسي المجيد والراهن المغربي العتيد.
ابن فاس التي أنجبت العلماء والأولياء والموسيقيين، لكنه في الآن نفسه ابن الرحلة التي حملته إلى أمريكا ثم إلى القاهرة، قبل أن يعود إلى المغرب مُحمّلًا بتجارب العالم؛ هذا المزج بين الأصالة والانفتاح جعله فنانًا استثنائيًا، وكائنًا عصيًا على كل تصنيف! أذ لم يكن يومًا أسير قالب واحد، بل كان مثل نهر ينساب حيث شاء، لكنه يظل وفيًا لمنبعه..
إنه “فنان المدن” بحق؛ فمن يسمع “مراكش”، “طنجة العالية”، “شفشاون يا نوارة”، أو “المدينة القديمة”، يدرك أن الرجل لا يغني المكان بوصفه جغرافيا، بل بوصفه كائنًا حيًا، له ملامحه وطقوسه ونبضه. المدن عنده ليست حجارة وشوارع، بل نساء جميلات، حسناوات يتجلى حسنهن في لحن وكلمة. وهكذا تحوّلت أغانيه إلى خرائط عاطفية للمغرب، لا تقل صدقًا عن الخرائط الجغرافية.
ما يميز نعمان أكثر من غيره هو تلك الجدية الأخلاقية التي رافقت مشروعه الفني. لم ينظر للغناء كمجرد تسلية، بل كرسالة ومسؤولية جسيمة. لذلك ظل بعيدًا عن الضجيج الإعلامي لأجل الصخب؛ مثلما ظل بعيدا أيضا عن الفضائح الاستهلاكية. لم يساوم على الذوق، ولم يركض خلف ما يطلبه السوق، بل ظل يضع نصب عينيه صورة المغرب كما يليق أن يُرى: عميقًا، راقيًا، متألقًا.
ولأنه رجل مواقف، لم يختبئ خلف الفن ليتهرب من قول الحقيقة. دافع عن سعد لمجرد ودنيا بطمة في أصعب وقت حين تخلى عنهما الجميع، لأنه على خلاف ناهشي اللحوم يرى أن العدل لا يكون بالشماتة، وأن الوقوف بجانب إنسان في محنته أهم من التصفيق له في مجده. تلاسَنَ بشراسة مع مغنيي الراب دفاعًا عن الذائقة، لا كُرهاً لهم بل حبًّا في الكلمة والنغم. جلس على كرسي لجنة تحكيم “ستار لايت” كأستاذ صارم وحنون في آن واحد، يغرس في الشباب بذور الصدق قبل الشهرة.
إن مساره أشبه برواية طويلة: طفل يتعلم الغيتار في فاس، شاب يعمل في منتجع “ديزني” بأمريكا، طالب يتلقى إشادة محمد عبد الوهاب في القاهرة، فنان يغني للمدن المغربية، مثقف يكتب مواقف عن فلسطين، ورجل يختار الصمت الطويل على الثرثرة الفارغة. كل فصل يضيف لبنة في شخصية لا تزال تبني نفسها حتى اليوم! عجبا لتلك الشخصية الفريدة أما أخبرها أحد أنها باتت هرما من الأهرامات الكبار!؟
البدايات في فاس .. صوت يبحث عن معنى
وُلد نعمان لحلو سنة 1965 في مدينة فاس، في بيت بسيط لكنه مشبع بالموسيقى والتراث أيما تشبع.. منذ طفولته كان الصوت بالنسبة له لعبته الأولى! لم يكن يتلهى بقطار خشبي أو كرة جلدية، بل بالغيتار الذي قُدم له صغيرًا. ومنذ العاشرة التحق بالمعهد الموسيقي بفاس، حيث تلقى تكوينًا أكاديميًا صارمًا، في مدينة كانت تتنفس الأندلسي والملحون في كل زقاق. هناك بدأ يبني علاقته الأولى مع المقامات، يكتشف سر النغم، ويتلمس الطريق إلى نفسه من خلال الموسيقى.
رحلة التكوين بين المشرق والغرب
في مطلع شبابه، حملته الرحلة إلى الضفة الأخرى من الأطلسي، حيث عمل في منتجع “ديزني” بأمريكا. لم يكن مجرد عمل عابر، بل مدرسة في الانضباط والاحتكاك بثقافة مختلفة. ومن هناك شدّ الرحال إلى القاهرة، حيث التحق بـالمعهد العالي للموسيقى. وهناك ستتغير حياته إلى الأبد: فقد تعرّف على أساتذة كبار، وتلقى إشادة مباشرة من الموسيقار محمد عبد الوهاب، الذي رأى فيه فنانًا واعدًا. هذا الاعتراف لم يكن شهادة فقط، بل كان بمثابة إجازة معنوية دفعته ليحمل مشروعه الفني بجدية مضاعفة.
صوت الوطن .. بين الأندلس والصحراء
بعد العودة إلى المغرب، لم يسلك درب الأغنية التجارية، بل اختار الأصعب: بناء هوية غنائية ترتكز على الأصالة وتخاطب العالم. فجاءت أعماله مثل لوحات فنية للمدن المغربية: “مراكش”، “المدينة القديمة”، “طنجة العالية”، “شفشاون يا نوارة”، “العيون”. لم تكن مجرد أغانٍ محلية، بل جواز سفر فني جعل المغاربة في المهجر يتعرفون على وطنهم بلهجة موسيقية تليق بتاريخهم. وهنا كسب لقبه: فنان المدن المغربية.
بين المعهد والرحلات .. المثقف الرحّالة
لم يكتف نعمان بمقام المغني، بل واصل تكوينه الأكاديمي، فحصل على دكتوراه في فلسفة الموسيقى. كما جاب بلدانًا عديدة، من إفريقيا إلى أوروبا، مستكشفًا موسيقاها، ومؤمنًا بأن لكل شعب بصمة صوتية تعكس روحه. هذه الرحلات جعلته أقرب إلى صورة الفنان المثقف، الذي لا يعيش الفن كترف، بل كبحث وجودي.
حين يتكلم الضمير .. دفاعه عن سعد لمجرد ودنيا بطمة
في وقتٍ كان فيه الكثيرون يتسابقون للتنصّل من سعد لمجرد ودنيا بطمة، بل لاستثمار ذلك في التنكيل بهما وقتلهما معنويا؛ وقف نعمان لحلو بشهامة الكبار مخالفًا للتيار. لم يبرر أفعالهما أو ينكر مسار العدالة، لكنه رفض بشدة وحكمة أن يتحول الفنان إلى جثة تنهشها الألسن.. كان يقول: “الوقوف مع الناس في ضعفهم أصدق من التصفيق لهم في قوتهم”. هذه المواقف عززت صورته لدى جمهور عريض جدا؛ كفنان صاحب الموقف كما الضمير، يرى في الإنسانية قيمة أسمى من حسابات السوق والشهرة؛فنانٍ ينتقدك في فترات قوتك ولا يمشي على جسمك إبّان سقوطك! فمن يجرؤ أن لا يرفع له القبعة!؟
على جبهة الذائقة .. اشتباكه مع مغنيي الراب
في السنوات الأخيرة، ومع صعود موجة الراب في المغرب وبروز أسماء تعلق بها كثير من الفئات الشبابية لم يتردد نعمان لحلو في دخول ذلك العالم العصي على الولوج للجميع؛ ومن ثمة انتقاد بعض مضامينه! دخل في سجال مع عدد من نجوم هذا الجيل، معتبراً أن الكلمات النابية والمواضيع السطحية تهدد الذوق العام.. لم يكن الرفض رفضًا مطلقًا، بل محاولة منه لتجويد المنتوج؛ فيما استنكر عليه باقي النجوم الشباب ذلك “الاقتحام” معتبرين أنفسهم فنانين معلاِجِين بالصدمة لا يحق لأي كان إقصاؤهم.. نعمان وبعد شد وجذب أوضح أن لكل مكانه وأنه لم يقص أحدا بل خلق النقاش غيرة على اللغة والموسيقى.. حينها بدا للبعض كأنه “حارس المعبد القديم”، لكنه في الحقيقة كان يخشى أن ينهار صرح الذائقة تحت وطأة السرعة والابتذال… فهل تعود الاثنان على التعايش!؟ وهل يمكن أن نرى احتفاء مشتركا بين أحد نجوم الراب
ونعمان!؟
أستاذ على منصة الشباب .. تجربة ستار لايت
مشاركته في برنامج “ستار لايت” أعادت تقديمه لجمهور جديد لم يتردد لوهلة في هدم الحواجز بينه وبين غموض نعمان فبات فعلا يحبه.. ذلك أنه لم يظهر كقاضٍ نرجسي يبحث عن الإثارة التلفزيونية، بل كأستاذ صارم وحنون، يوجه الشباب إلى الصدق الفني، ويغرس فيهم أن الغناء ليس مجرد شهرة أو أضواء، بل مسؤولية ورسالة. كان يبتسم حين يلمس الموهبة، ويقطّب حاجبيه حين يرى التهاون. هكذا عاشه الجمهور: أستاذًا قبل أن يكون نجمًا.. وكما أن للجمهور ميلا عاطفيا كان حدس نعمان لا يخطئ أوليس هو من ضغط الزر ل “لازارو”!؟ ذلك في لحظة تخلف فيها عن الموعد غيره! التاريخ كاتب يسجل كل صغيرة وكبيرة؛ والتاريخ نفسه يشهد لنعمان لحلو رؤيته الاستباقية التي لا تخطئ الجودة!
نعمان الإنسان .. عزلة المتصوف وسط صخب الشهرة
وراء الأضواء، يختار نعمان حياة أقرب إلى العزلة! قليل الظهور الإعلامي، متأمل، قارئ نهم، يفضل الصمت الطويل على التصريحات العابرة. من يعرفه عن قرب يقول إنه متواضع، يزن كلماته بالقدر الذي يزن به ألحانه. كأنه صوفي يعيش في حضرة الفن، يرى فيه عبادة صامتة.
إرث وأفق .. وصية للأغنية المغربية
اليوم، وبعد عقود من العطاء، لم يعد نعمان مجرد مغنٍّ أو مطرب ملحن، بل تحول إلى مرجع، إلى مدرسة في فهم الفن بوصفه مشروعًا وطنيًا. إرثه ليس فقط في ألبوماته أو حفلاته، بل في الدرس الذي يتركه للأجيال: أن الفن الحقيقي هو الذي يحترم الجمهور ويضيف للذاكرة، لا الذي يذوب سريعًا في هواء اللحظة. لقد جعل من الأغنية المغربية جسرًا بين الماضي والمستقبل، وترك وصية غير مكتوبة: “كونوا صادقين… فالموسيقى لا تكذب”.
إشادة الدولة .. التوشيح الملكي تكريم للموهبة والضمير
في عام 2015، اختار الملك محمد السادس أن يكرّم نعمان لحلو بوسام من درجة “ضابط”، احتفاءً بمساره الفني الذي امتزج فيه الصوت بالموقف، والألحان بالضمير، والابتكار بالأصالة. لم يكن الوسام مجرد قطعة معدنية تلتصق بالصدر، بل كان رمزًا رسميًا لتقدير الدولة لموسيقار جمع بين الإبداع الفردي والحس الوطني، ولإنسان وقف على الدوام بجانب قيم الحق والجمال.
حين وقف لحلو أمام الملك، لم يكن مجرد لقاء احتفالي؛ كانت لحظة تأكيد رسمي على أن الفن الراقي يظل حجر الزاوية في ذاكرة الأمة، وأن الفنان الذي يجمع بين الموهبة والصدق في مساره يُكرم ليس فقط لإنجازاته، بل لإرثه الذي يلهم الأجيال. وفي تلك اللحظة، لم يُحتفل بصوت يغنّي، بل بـ”نغمة وطنية خالدة”، وبفنان جعل من الأغنية المغربية مرآة لتراثها ونافذة لعالمها المستقبلي.
مملكتنا.م.ش.س