إصلاح التعليم العالي بالمغرب بين منطق التنمية ومطلب الاستقلالية .. قراءة في مشروع القانون رقم 59.24

الخميس 23 أكتوبر 2025 - 20:19

✍️ بقلم: د. امحمد أقبلي
أستاذ باحث.
رئيس جماعة أجلموس.

الملخص التنفيذي
يُعدّ مشروع القانون رقم 59.24 المتعلق بالتعليم العالي والبحث العلمي (في نسخته المحينة المحالة على مجلس النواب في أكتوبر 2025) محطة مفصلية في مسار إصلاح التعليم العالي بالمغرب.
فهو يسعى إلى تحقيق التكامل بين الجامعة والتنمية الوطنية من خلال إعادة هيكلة الحوكمة الجامعية وتوسيع مجالات التمويل، غير أنه يُثير في الوقت نفسه تساؤلات عميقة حول مدى احترامه لمبدأي الاستقلالية والحرية الأكاديمية اللذين أرساهما القانون رقم 01.00 سنة 2000.

ومن خلال مقارنة دقيقة بين النصين، يبدو أن الإصلاح الجديد يميل إلى منطق التنمية الموجّهة أكثر من منطق الاستقلالية المؤسسية، ما يطرح سؤالاً جوهريًا:

هل نحن أمام تطور استراتيجي نحو جامعة فعالة ومنفتحة؟
أم أمام تراجع بنيوي يُهدّد جوهر الحرية الأكاديمية ومبدأ الحكامة الديمقراطية داخل الفضاء الجامعي؟

أولاً: من الجامعة المستقلة إلى الجامعة المُؤَطّرة — تحولات في فلسفة الحوكمة

  1. مجلس الأمناء: سلطة جديدة بروح وصاية قديمة

استحدث المشروع بنية جديدة هي مجلس الأمناء، الذي يضم في عضويته والي الجهة أو ممثله، ورئيس الجهة، وعددًا من الأعضاء المعيّنين من قطاعات وزارية ومؤسسات اقتصادية.
وتنص النسخة المحينة (أكتوبر 2025) على حضور رئيس الجامعة بصفة استشارية، مع منح رئيس مجلس الأمناء صلاحية استدعاء من يشاء “كلما رأى فائدة في حضوره”.

وتُناط بالمجلس مهام إبداء الرأي في استراتيجية تطوير الجامعة، وتتبع العقود–البرامج، واقتراح إحداث أو حذف المؤسسات الجامعية أو فروعها بالخارج.
غير أن هذه البنية، رغم ما تحمله من طابع تحديثي، تجعل من مجلس الأمناء سلطة وصاية تقريرية أكثر منها هيئة مواكبة، وهو ما يعيد تمركز القرار الجامعي خارج الإطار الأكاديمي ويُضعف دور الرئاسة والمجالس المنتخبة.

  1. مجلس الجامعة وتراجع التمثيلية

من المقتضيات المثيرة للجدل أن المشروع يعتبر مجلس الجامعة مكوَّنًا قانونيًا حتى في حال عدم انتخاب أعضائه داخل الآجال المحددة.
ورغم أن الهدف المعلن هو تفادي الشلل الإداري، فإن هذا المقتضى يُفرغ المجالس من مضمونها التمثيلي، ويحوّلها إلى أجهزة شكلية تفتقر إلى الشرعية الديمقراطية.
وهذا يتناقض مع روح القانون 01.00 الذي جعل من الانتخاب أحد أسس الحكامة الجامعية.

ثانياً: الاستقلالية الأكاديمية بين النصوص والممارسة

ينص المشروع في المادتين 9 و10 على تمتع الجامعة بالاستقلال الإداري والمالي والأكاديمي.
غير أن هذه الاستقلالية تبقى مقيدة بآليات وصاية، إذ لا يمكن المصادقة على استراتيجية تطوير الجامعة إلا بعد رأي أمين مجلس الأمناء.

وهذا يعكس تناقضًا واضحًا بين الإعلان الدستوري للاستقلالية (الفصل 31 و33 من الدستور) وبين الممارسة التي تُبقي القرار الأكاديمي تحت سلطة مركزية، مما يُعيد الجامعة إلى منطق الإدارة أكثر من مؤسسة للمعرفة.

فالجامعة التي تفقد حريتها الفكرية تفقد بالضرورة قدرتها على الإبداع،
والبحث العلمي لا يزدهر إلا في مناخ من الثقة والاستقلال.

ثالثاً: الجماعات الترابية وتمويل الخدمات الجامعية — بين الشراكة والتفاوت

من أبرز المستجدات الإيجابية في المشروع الجديد التنصيص في المادة 88 على مساهمة الجماعات الترابية في تمويل الخدمات الاجتماعية لفائدة الطلبة (الإيواء، الإطعام، المنح، والتغطية الصحية).
ويُعدّ ذلك انسجامًا مع مبدأ الجهوية المتقدمة وتوجه الدولة نحو إشراك الجهات في السياسات العمومية.

لكن هذا التوجه قد يؤدي إلى فوارق مجالية بين الجامعات حسب قدرات الجماعات الترابية، مما يتطلب إرساء آلية وطنية لتكافؤ التمويل وضمان العدالة الترابية.

كما أقرّ المشروع دعمًا خاصًا للطلبة في وضعية إعاقة أو صعوبات إدراكية ونفسية، وهو مكسب حقوقي يُجسّد مبدأ الإنصاف وتكافؤ الفرص في التعليم العالي.

رابعاً: الحريات الطلابية والمواطنة الجامعية

تُشير المواد 87 إلى 92 إلى تنظيم الحياة الطلابية في إطار الأنشطة الثقافية والترفيهية، مع الإشارة إلى إمكانية تأسيس جمعيات للدفاع عن مصالح الطلبة.
غير أن النص يتجنب التنصيص الصريح على حرية التنظيم النقابي والجمعوي داخل الحرم الجامعي، مما يُعدّ تراجعًا عن المكاسب الديمقراطية التي رسّخها دستور 2011 في فصله 29.

فالجامعة التي تُقصي صوت الطلبة تُحوّلهم إلى مستفيدين سلبيين بدل أن يكونوا فاعلين شركاء في القرار الجامعي، وتضعف بذلك قيم المواطنة الجامعية والحوار.

خامساً: الجامعة والتنمية — من التفاعل إلى التبعية؟

يُبرز المشروع ارتباطًا واضحًا بين الجامعة والتنمية الاقتصادية عبر تشجيع الشراكات مع القطاع الخاص وتحفيز الابتكار وريادة الأعمال.
غير أن هذا الربط ينبغي أن يقوم على تكامل الأدوار لا على إخضاع الجامعة لمنطق السوق.

فالجامعة ليست مؤسسة لتكوين الأطر التقنية فحسب، بل فضاء لتكوين العقل النقدي وبناء الإنسان المبدع القادر على قيادة التنمية، لا تنفيذها فقط.

سادساً: البحث العلمي والابتكار — تمويل محدود وهجرة الأدمغة

رغم أن المشروع يشير إلى “تشجيع البحث العلمي والابتكار”، فإنه لم يضع آليات تمويل واضحة ومستدامة.
ولا يزال الإنفاق الوطني على البحث العلمي لا يتجاوز 0.8% من الناتج الداخلي الخام، في حين تُسجّل المملكة نزيفًا سنويًا لهجرة الكفاءات (أكثر من 10,000 باحث وطالب وفق تقارير البنك الدولي 2025).

الإصلاح الحقيقي للبحث العلمي لا يتحقق بالشعارات،
بل بالتمويل، والاستقلال، والثقة في الباحثين.

سابعاً: منهجية الإصلاح — بين الاستعجال وضعف المشاركة

تمت مراجعة المشروع بسرعة ودون نقاش عمومي موسع، ما ولّد شعورًا بالإقصاء داخل الأسرة الجامعية.
إن غياب الحوار يضعف الشرعية التشاركية ويُحوّل الإصلاح إلى عملية فوقية.
وينبغي تفعيل الفصل 13 من الدستور الذي يضمن مشاركة المواطنات والمواطنين في إعداد السياسات العمومية.

نحو توازن جديد بين التنمية والاستقلالية

يعكس مشروع القانون رقم 59.24 إرادة سياسية لتحديث الجامعة ودمجها في النموذج التنموي الجديد، لكنه يعيد في الوقت نفسه طرح سؤال جوهر الجامعة:

هل الإصلاح وسيلة لتقوية استقلالها، أم لإدماجها في منظومة وصاية جديدة؟

إنّ التنمية لا تُبنى إلا بالعقل، والجامعة هي عقل الأمة.
وما دام المغرب قد صان استقلاله السياسي والحضاري لأكثر من اثني عشر قرنًا، فإن صون استقلال الجامعة المغربية هو استمرار لتلك السيادة الفكرية التي ميّزت الحضارة المغربية عبر العصور.

الهوامش والمراجع.

  1. مشروع القانون رقم 59.24 المتعلق بالتعليم العالي والبحث العلمي، النسخة المحينة، أكتوبر 2025.
  2. القانون رقم 01.00 المتعلق بتنظيم التعليم العالي، الجريدة الرسمية عدد 4800 بتاريخ 19 ماي 2000.
  3. القانون الإطار رقم 51.19، الجريدة الرسمية عدد 6805 بتاريخ 9 شتنبر 2019.
  4. الأمانة العامة للحكومة، نص المشروع بعد التعديل (المادة 13).
  5. المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، تقرير حول التعليم العالي والجهوية، شتنبر 2025.
  6. وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، عرض الوزير عز الدين ميداوي أمام لجنة التعليم والثقافة والاتصال، 21 أكتوبر 2025.
  7. البنك الدولي، Migration of Skilled Workers: Morocco Report, 2025.

Loading

مقالات ذات صلة

الخميس 23 أكتوبر 2025 - 08:48

الجامعة المغربية بين اتساع الولوج وتحدي الجودة والعدالة المجالية

الجمعة 10 أكتوبر 2025 - 21:22

من خطاب التوجيه إلى تعاقد الإنجاز .. قراءة أكاديمية في الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح السنة التشريعية 2025

الجمعة 19 سبتمبر 2025 - 17:35

قضية عبد الرحيم إل. م بين القضاء الهولندي والسيادة المغربية: حين يُزج باسم المنصوري في سجال قضائي خارجي

الثلاثاء 9 سبتمبر 2025 - 09:10

خطير جدا .. اغتيال مؤجل .. داخل كواليس خطة جزائرية مفترضة لتصفية ممثل “حماس” بالجزائر