لندن – في أول ظهورٍ إعلاميٍ له منذ خروجه من رئاسة جهاز الاستخبارات البريطانية الخارجي (MI6)، قدَّم ريتشارد مور، الذي تولى المنصب بين عامي 2020 و2024، تقييماً متشائماً للحالة الجيوسياسية الراهنة، مؤكِّداً أن العالم يعيش حالةً من “التفكك غير المسبوق” في النظام الدولي، وأن السباق الاستخباراتي بين القوى الكبرى يتَّخذ طابعاً أكثر حِدَّةً وتعقيداً من أيِّ وقتٍ مضى.
وخلال المقابلة التي أُجريَت معه في برنامج “The Mishal Husain Podcast” لصالح وكالة “بلومبرغ”، أشار مور إلى أن النظام العالمي الذي نشأ عقب الحرب العالمية الثانية، بما احتواه من تفاهماتٍ غير مكتوبة بين القوى الكبرى، بدأ يتفكَّك بشكلٍ متسارع، خاصةً بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وتزايُد التوتر بين الولايات المتحدة والصين. وقال مور إن البيئة الدولية باتت اليوم “أقل تنظيماً مما عرفه طوال 35 عاماً من العمل الاستخباراتي والدبلوماسي”، وهو ما يَجعل فُرص سوء التقدير بين الدول أكثر خطورة.
وعند سؤاله عن كيفية تعامل الاستخبارات البريطانية مع الصين، أشار رئيس الاستخبارات البريطانية السابق إلى أنها تمثِّل في آنٍ واحدٍ فرصةً اقتصادية كبرى وتهديداً استراتيجياً متزايداً، معتبراً أن بكين تلعب دوراً محورياً في ملفاتٍ مثل التغيُّر المناخي والتكنولوجيا والتجارة، إلا أن سلوكها الاستخباراتي العدائي تجاه الغرب لا يمكن تجاهله.
وأوضح في حديثه لـ”بلومبرغ” أن “الصين تجمع معلومات تستهدف أمن المملكة المتحدة ومصالحها الحيوية”، مضيفاً أن الرد يجب أن يكون “صريحاً وصارماً” لكنه لا يمنع من بناء علاقات قائمة على الاحترام المتبادل. واستشهد بتعبيرٍ استخدمه في خطابٍ علني سابق، وصف فيه الصين بأنها “تحدٍّ وفرصة”، وهي معادلةٌ يصعب إدارتها سياسياً لكنها واقعية.
أما روسيا، فقد خصَّها مور بانتقاداتٍ أكثر مباشرة، متحدِّثاً عمَّا وصفه بـ”تحوُّل الكرملين من التجسس التقليدي إلى أشكال هجينة من العمل التخريبي”، تشمل الهجمات السيبرانية، ومحاولات الاغتيال، وحملات التضليل الإعلامي، مؤكداً أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يسعى إلى تسوية حقيقية في أوكرانيا، بل إلى فرض واقعٍ سياسي يجعل كييف تابعةً لموسكو على غرار النموذج البيلاروسي.
واستناداً إلى معلومات استخباراتية اطَّلع عليها قبيل مغادرته المنصب، قال الرئيس السابق للاستخبارات البريطانية إن بوتين “غير مستعد لأي صفقة”، وإن السبيل الوحيد لدفعه نحو التفاوض هو عبر تكثيف الضغط العسكري والاقتصادي عليه، مؤكِّداً أن الحرب في أوكرانيا أصبحت “اختباراً لإرادة الغرب السياسية، لا مجرَّد صراع حدودي”.
وفي سياقٍ آخر، شدَّد مور على أن العمل الاستخباراتي لا يصلح لمن يبحث عن الاعتراف العلني أو الأضواء، مبرزاً أن السرية المطلقة كانت جزءاً أساسياً من حياته المهنية، حتى إن بعض أفراد أسرته لم يعرفوا طبيعة عمله إلا في مرحلة متأخرة. وأضاف: “إذا كنت تبحث عن التقدير العام، فهذا ليس المجال المناسب. لا يمكنك أن تتحدث عن عملك في نهاية الأسبوع مع أصدقائك”.
وعند تطرُّقه إلى مرحلة ما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، أقرَّ رئيس الاستخبارات البريطانية السابق بأن التعاون الاستخباراتي بين الولايات المتحدة وبريطانيا في تلك الفترة شابته تجاوزات، خصوصاً ما يتعلق بملف التعذيب.
ورغم نفيه وجود تورط مباشر من MI6 في هذه الانتهاكات، فإنه اعترف بأن بريطانيا تأخرت في إدراك حجم المخالفات التي ارتُكبت من قبل واشنطن. ولافتاً إلى أن الجهاز خضع لاحقاً لإصلاحات صارمة فيما يتعلق بالامتثال للمعايير القانونية والأخلاقية في العمليات الخارجية.
وفيما يخص التحولات التكنولوجية، أشار مور إلى أن التجسس في القرن الحادي والعشرين لم يعد مجرَّد عمليات بشرية تقليدية، بل أصبح جزءاً من “سباق تسلُّح تقني”.
وأوضح رئيس الاستخبارات البريطانية السابق أن MI6 بات منفتحاً على التعاون مع شركات التكنولوجيا الناشئة، بل واستثمر فعلياً في تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، في محاولة لمواكبة التحديات المتسارعة. وقال لـ”بلومبرغ” إن “الجهة التي ستتفوَّق استخباراتياً في هذا العصر، هي من ستتمكن من دمج المهارات البشرية بالقدرات التكنولوجية بسلاسة”.
وفي ختام المقابلة، أكَّد مور أنه لا يعتزم تولِّي أي مناصب رسمية بعد تقاعده، رغم تداول اسمه ضمن الترشيحات المحتملة لمنصب سفير بريطانيا في واشنطن. وقال بابتسامة هادئة: “بعد أربعة أعوام من العمل الكثيف، حان الوقت لأكون جداً بدوام كامل”.
مملكتنا.م.ش.س
![]()



