إن وحدة الأمة قائمة على وحدة في الفكر والمنهج والسلوك، وأمة مختلفة في هذه النواظم قائمة على شفا جرف من الاضطراب والفتن والضياع والانكسار.
وقد رضي الله تعالى للأمة المغربية توحدا في ثوابتها التي قامت عزتها عليها، وهي العقيدة والمذهب والسلوك والحكم.فيقوم المذهب المالكي على مقومات تنظيم العلاقة بين الخالق والمخلوق وبين المخلوقات فيما بينهم، وقد أسسه صاحبه الإمام مالك على مقتضيات القرآن الكريم وسنة النبي الأمين عليه السلام، وفهم خيار أهل المدينة وعلمائهم.
ولما كان صلاح الناس مبنيا ومحكوما بوحدة أمتهم وقوتها وتماسكها فقد راعت المذهبية عموما والمذهب المالكي على وجه الخصوص مفهوم الأمة بناءً وحبا ومحافظة وتقديسا وتطويرا.
ومن أهم صور اهتمام المذهب بمفهوم الأمة التمذهب نفسه، لأن التمذهب وسيلة لوحدة الناس في أهم وأحرج أمور حياتهم وهي أمور الدين، فتشديد علماء المالكية في أمر المذهبية أمر مسوغ ومقبول ومحمود لكونه موصلا إلى أمر محمود، فقوله تعالى (كنتم خير امة أخرجت للناس) فيه ضمنية الوحدة التي هي سبب العزة والخيرية في لفظ “كنتم”.
ومن تلك الصور أيضا اهتمام المذهب المالكي بضرورة توحيد الكلمة على الإمام الأكبر وهو حاكم المسلمين واعتنى أيضا بالحديث عن ضرورة البيعة وشروطها وحتميتها.
كما اهتم المذهب المالكي بضرورة الوحدة في كل جزئيات العبادات وكلياتها حفاظا على مقومات نهضة الأمة، في الصلاة والصيام والحج والزكاة والفرائض والنوافل وغير ذلك.
أما العقيدة الأشعرية فتمسك المغاربة بها كان السر وراء تماسك أمتهم وتلاحم مجتمعهم، لأنها تسد الباب وراء التعيير في العقائد والتكفير والتفسيق، وتجمع الناس على راية توحيد واحدة.
أما التصوف فلكونه يهدف إلى الارتقاء بالمرء إلى مدارج الإسعاد الروحاني والجسماني والفردي والمجتمعي، فهو تهذيب للقلوب ودعوة لمكارم الأخلاق وطرح لسفاسف الأمور التي تعوق مسار الوحدة ،كما أنه داع للحب والألفة التي بها تماسك الأمة وبقاؤها وقوتها.
ومن ثوابت الأمة إمارة المؤمنين التي هي نتيجة طيبة لبقاء وحدة الحكم وانتظام أمر السياسة الشرعية في الأمة وتوحدها على نظر واحد وإمام عدل واحد، وهي التي عنى الشرع بها اعتناء كبيرا لكونها من مهمات التعمير ومقومات الاستخلاف في الأرض.
فالواقع والتاريخ يؤكد على أن الأمة المغربية إنما اكتسبت مظاهر العزة والقوة والشرف على مدى قرون طويلة لأنها احترمت مقومات الأمة التي أسسها المذهب المالكي وكان طرفا في الحفاظ عليها.
أصول البيعة الشرعية
شكلت البيعة على مر التاريخ الإسلامي أهم الركائز التي تنبني عليها شرعية النظام السياسي الذي أبدعه المسلمون، وكانت الخلافة إحدى ثمراته، وقد ظلت هذه المنظومة تمثل إطارا جامعا تلتقي فيه السلطتان الروحية والزمنية لدى الحاكم المسلم، هذا التناغم بين السلط الذي استمدت منه الحضارة الإسلامية فرادتها وتماسك بنياتها السياسية والاجتماعية لقرون طوال.
وإمارة المؤمنين كمؤسسة سياسية تجمع بين السلطتين الآنفتي الذكر، هي إحدى إبداعات هذا النظام الفريد، فالمؤمنون في التصور السياسي والاجتماعي الإسلامي يشكلون وحدة عضوية منسجمة، ونسيجا مترابطا من المصالح والعلاقات، وفي أعلى هرم هذه البنية المتراصة تتمركز إمارة المؤمنين، تسوس أمورهم، وتضمن وحدتهم، وتصون كرامتهم، وترعى أمنهم واستقرارهم، في إطار تعاقد قانوني وأخلاقي بموجب البيعة الشرعية، وشراكة اجتماعية وسياسية يؤطرها مبدآ الشورى والمناصحة.
وهي بذلك ليست مؤسسة جامدة، أو خارج سياقها التاريخي والموضوعي، وإلا لما كانت استمرت في التواجد والتأثير، وهو الاستمرار الذي عجزت أعتا الأشكال السياسية والاجتماعية، والنظريات والفلسفات الفكرية، وأكثرها حداثة – بالتحديد الزمني- عن تحقيقه، بما فيها تلك التي طالما بدت في عيون أصحابها “حتمية تاريخية” ونتيجة طبيعية لتطور “مادي” يفضي بالتأكيد إلى سيادة نمط اجتماعي سكوني موهوم، أو تلك الأخرى التي تستلهم تجارب وإطارات استخدمت القوالب الدينية كقيم وأدوات تحريضية من أجل الوصول إلى سدة الحكم والاستيلاء على السلطة من دون مشروع واضح، في أفق إنتاج الاستبداد والانسداد السياسي.
إن أصحاب مثل هذه الأفكار وتلك، إنما يعبرون عن ضحالة وعيهم بحركة التاريخ، عندما يحاولون إسقاط نماذج معزولة في الزمان والمكان، على واقع ظل يعيش صيرورة تاريخية مترابطة الحلقات، ويجتهدون في إحداث قطيعة غير ذات موضوع، مع الذات والهوية والذاكرة، وهي القطيعة التي ينتج عنها بالقوة انفصام مزمن في الشخصية والوعي والممارسة، وتتهاوى أمام الحقائق الممتدة في الكون والزمن، والطبيعة والإنسان.
وعليه، فالذين يحاولون إيهام المغاربة بأن مؤسساتهم الشرعية، وفي مقدمتها مؤسسة إمارة المؤمنين، قد استنفذت أغراضها التاريخية والموضوعية، إنما يضعون أنفسهم – من حيث يدرون أولا يدرون – في دائرة المواجهة مع التراث الروحي والسياسي لشعبهم، ويسعون إلى تدمير الشطر الرئيس من كينونته، بعد فشلهم المتراكم في فرض مشروعات مجتمعية واضحة ومتكاملة المعالم من قلب هذه الكينونة وفي سياقها.
يقول بعض الباحثين: إن إمارة المؤمنين كسلطة ومؤسسة، هي دعامة الوحدة الوطنية، والضمانة الفعلية والواقعية لتحقق أمن المغاربة الروحي والسياسي، فإن أي دعوة إلى التنازل عن هذه المؤسسة باعتبارها مكسبا ورصيدا استراتيجيا، إنما هي محاولة لضرب مقومات وحدة هذا البلد والإجهاز على أمنه واستقراره.
وإن القراءات التي يقدمها بعض رموز وسياسيي ومثقفي هذا التيار أو ذاك، لمستقبلنا السياسي والاجتماعي، ستبقى قراءات قاصرة، ما لم تستحضر خصوصية التجربة المغربية في هذا الإطار، وهي ليست بالمعنى المحافظ المنغلق الرافض لمنطق التحديث والعصرنة، وليست ترويجا لفكر تقليدي لا يتفاعل مع ديناميكية التطور وتحول المناخات والأجواء، وإذا صح نعت هذه الخصوصية بالتقليد فسيكون بالتأكيد تقليدا لا يمت بصلة إلى التقليدانية التي حاربها الأوربيون في عصر نهضتهم إبان الثورة على الإقطاع وتغول الكنيسة، وإنما هو تقليد يتجاوز تعليب الأنماط، وتحنيط الأفكار، وصنمية الأشخاص والمؤسسات، ويستثمر مميزات الحداثة في التأسيس لمجتمع سياسي ديمقراطي، يقوم على أساس القيم الدينية والوطنية، ويستفيد من دور الحداثة الوظيفي وآلياتها العلمية والمعرفية، في الرقي بالوعي الذاتي، دونما إجهاز على مقومات الشخصية المغربية أو إتلاف لمعالمها.
إن الشرعية التي يسائلها بعض الملفوفين في أوراق ومسودات الفكر السياسي الطفولي الحالم، إنما هي شرعية عرفها المغاربة منذ وطئت قدما القائد الفاتح عقبة بن نافع أرض الغرب الإسلامي، فتنفسوا من خلال رئات الفتح نسائم الحكم الإسلامي الرشيد، ولامسوا عن كثب دور هذا الدين في الدفاع عن الحق والمشروعية وحماية الثغور، عندما تميز ابنهم البار، خريج هذه المدرسة، طارق بن زياد، كأول شخصية عسكرية إسلامية محلية تتولى قيادة جيش الخلافة في هذه البقاع.
وقد خلق هذا كله لدى المغاربة، الاستعداد النفسي والقناعة الراسخة بعدم إمكانية تحقق سيادتهم أو اكتمال شخصيتهم الحضارية، إلا في إطار بيئة سياسية واجتماعية تشكل الإمارة الإسلامية عمودها الفقري ومركزيتها الإدارية والتنظيمية.
وهكذا، وعند أول تجربة اندمج فيها التصوران الديني والسياسي، سارع المغاربة إلى مبايعة المولى إدريس كأول حاكم مغربي جمع بين إمارة الدين وسياسة الدنيا، فكانت تلك اللبنة الأولى التي ارتكز عليها بناء صرح مؤسسة إمارة المؤمنين في مختلف مراحل تكوينها وتطورها.
وإذن، فإن أيا من الأطراف الداعية إلى فك ارتباط المغاربة بمشروعهم السياسي التاريخي، سواء كانت أطرافا علمانية أصحابها من دعاة الانزلاق على قشور الحداثة الغربية، أو إسلامية يتناقض روادها مع طبيعة مرجعيتهم القائمة أصلا على نمط الحكم الإمامي، إن أيا من هذه الأطراف لا يملك أسسا شرعية بالعمق الذي تتواجد فيه إمارة المؤمنين.
إذ كيف يمكن أن نكون تقدميين أو ديمقراطيين أو دعاة تقويم وإصلاح، حينما ندفع بمجتمعاتنا من الوحدة إلى الانشطار، ومن سعة الإطار الإسلامي وشموليته، إلى ضيق النظريات المولودة في أجواء مغايرة لأجوائنا وطبائعنا، والموءودة بفعل أجنبيتها وغرابتها؟.
إن مجرد التفكير في الدعوة إلى الاستغناء عن الدين كمكون من مكونات الدولة والنظام المغربيين، أو الدعوة إلى راية قومية أو دينية أخرى غير تلك المتجذرة في وعي المغاربة وكيانهم، لهو نوع من المغامرة الغير محسوبة العواقب، قد تؤدي في نهايتها إلى انفراط عقد شرعي واجتماعي طالما ربط بين المغاربة وحكامهم، وضمن الاستقرار والوحدة والتضامن، داخل مجتمع انتفت فيه المعيارية الطائفية أو العرقية أو المذهبية، وأعطى النموذج في التلاحم والتماسك والانسجام.
فلماذا يا ترى يقوم البعض اليوم بإثارة النعرات وزرع الفتن، وطرح اقتراحات وتصورات تزيد من تعميق الهوة بين أطراف الجسد المغربي الواحد، ولمصلحة من يتم الترويج لمثل هذه الأفكار والطروحات؟
ألا يعد ذلك تطبيقا واضحا لسياسات فشل الاستعمار القديم في فرضها كأمر واقع على المغاربة، حينما أقدم على محاولة شق صفهم عن طريق الظهير البربري مثلا؟ أو عن طريق الطعن في شرعية سلطانهم من خلال نفي الملك محمد الخامس والمحاولة الفاشلة في تنصيب بديل له ؟
ثم ألا يعتبر المضي في هذا المسلسل تنفيذا حرفيا للمشروع الاستعماري الجديد، الذي توضحت معالمه في بلدان مثل العراق ولبنان وفلسطين وغيرها، والقاضي بتفكيك بنية الدولة العربية، وترسيخ عقلية المحاصصة الطائفية، وتأجيج أدوار الصراع الإثنِي والمذهبي؟
أسئلة، وغيرها كثير، ستظل مشرعة، في انتظار تعميق النظر والمراجعة الشاملة لمسارات ربما يسيء أصحابها تقدير عواقب السير على نهجها، وقد يجهلون أنهم إنما يتجهون إلى الوقوع في غيابات المجهول.
إمارة المؤمنين والأمن الروحي
فمنذ تزوج المولى إدريس الأكبر كنزة الأمازيغية، في سياق بناء المجتمع المغربي، تحت بيعته الدينية بما هي حق الله؛ كان حقُّ الرَّحِم قد اندمج في هذا المعنى؛ مما شكل مفهوم “الأسرة الوطنية”! وهذا من أهم اللطائف في خصوصيات المكوِّن الديني للمجتمع المغربي. واستمر المغرب في تطوره التاريخي على وفاقٍ مع المرجعية الدينية للسلطة السياسية في البلاد، تحت صيغة إمارة المؤمنين، بدلالتها الشمولية المذكورة، عقيدةً ورَحِماً؛ إلى عهد الدولة العلوية، وهذا المعنى العظيم لا يزداد إلا قوة ورسوخا ، ولا تزداد آثاره إلا شمولا ووضوحا.
ففي ظروف اهتزاز كثير من الثوابت السياسية في العالم المعاصر سواء قبل انهيار الكتلة الشيوعية أو بعده، وما تلا ذلك من أحداث لا تزال تجلياتها إلى الآن، وما كان لها من آثار مختلفة على كثير من البلاد العربية والإسلامية بقي المغرب بحمد الله في أمن وأمان؛ لِمَا تحقق له من أمن روحي؛ بسبب هذه الطبيعة السياسية المندمجة في الفضاء الديني السمح، القائم على عقد البيعة. وما كان عقد البيعة في حقيقته إلا رابطا قلبيا على المستوى الوجداني، إذ الشعور الديني كما بيناه قائم على التعبد، وهذا إنما هو تواصلٌ روحي بين العبد وربه، وهو أهم ضمان وأقواه لاستقرار المغرب. حيث يمارس المؤمن عبادته بحفظ حق الله على المستوى السياسي المتمثل في حفظ عهد البيعة، والدفاع عنه بالغالي والنفيس . وتلك هي المرجعية التي أذكت روح المقاومة في الشعب المغربي، وأخرجته من تجربة الاستعمار أقوى ما يكون .
فبوجود إمارة المؤمنين يشعر المواطن المغربي بأمنه الروحي؛ بسبب ما يجد من ضمانٍ لممارسة حقوقه الدينية، والتعبير عن مواجيده الإيمانية. فهذه المساجد المغربية، بعمارتها الأصيلة الراسخة، تعلن – وهي ترفع الأذان خمس مرات في اليوم للناس، كل الناس، الأمنَ والأمان، وتنشر السلم والسلام. وبذلك تنزل السكينة على القلوب؛ لأنها تشعر أن عقيدتها في حمى أمير المؤمنين.
وعليه ، فإن الواعظ و الخطيب يجب ألا تغيب عنه ما هذه الحقيقة الراسخة، وهما يؤديان مهمتهما كواجب ديني ووطني في الآن نفسه . بل يجب أن تكون هي المؤطر الأساس إلى جانب الخصائص الأخرى لخطابهما الديني.
إن الوفاء لعقد البيعة من حيث هي حق من حقوق الله يجب أن يكون نصب عين الإمام، أو الخطيب؛ لأنهما إنما ينوبان في مهمتهما تلك عن الإمامة العظمى، ومن ثم يتوجب على الإمام والخطيب العمل على تأليف القلوب حولها والتذكير بواجب السمع والطاعة للإمام الأعظم وذلك ما تنطق به الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة.
ومن هنا وجب أن تكون توجيهات أمير المؤمنين، في الشأن الديني والوطني مرجعا دائما للواعظ أو الخطيب؛ تحقيقاً للتواصل بين الإمام الأعظم وأمته. وإنما يتنـزل ذلك بصورة مطبقة بالتواصل مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ومع المجلس العلمي الأعلى، الذي يرأسه أمير المؤمنين، ثم مع المجالس العلمية المحلية عبر الصعيد الوطني.
إن ذلك من شأنه أن يسدد الخطاب الديني العامل في حقل الإصلاح والتربية والتوجيه والإرشاد، ويجنبه مواطن الزلل والخلل، ويحفظه من الاصطدام بالحقائق الإيمانية، والثوابت الوطنية.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا ومولانا محمد وعلى اله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم نلقاه.
د. عبد الله الشريف الوزاني
مملكتنا م.ش.س