العالم لا ينتهي عند حافة الصحراء ولكن الذي ينتهي بالفعل هو العالم الحديث المألوف لنا كما يتضح من خلال جولة بالصحراء مع الأبل.
يعدّ وادي درعة المكسو بالخضرة اليانعة واحة واسعة تزدان بأشجار النخيل التي ترتفع إلى عنان السماء وتتخللها حقول الذرة الكثيفة، غير أن هذه المساحات الخضراء تأخذ في التلاشي لتفسح المجال لأراض قاحلة كلما اقترب الركب من الصحراء المحيطة بالمكان.
ويستمر الطريق الواقع في الجنوب المغربي لعدة كيلومترات وسط مناطق مأهولة بعدد قليل من السكان حتى ينتهي في قرية محاميد الصغيرة، وهنا توجد مجموعة قليلة من المباني تتحدى الصحراء وتتيح نقطة انطلاق للجولات السياحية.
ويشاهد أحد العاملين في محاميد مرتديا عمامة فوج السياح ويصيح وعلى فمه ابتسامة عريضة “مرحبا بكم في نهاية العالم”. ولا ينتهي العالم بالطبع عند حافة الصحراء، ولكن الذي ينتهي بالفعل هو العالم الحديث المألوف لنا كما يتّضح بالنسبة إلى الفوج الذي يقوم بجولة على ممر بالصحراء مع الأبل.
وتبدأ الجولة خارج وادي درعة بعمل شاق، ويجب أولا تحميل الجمال بجميع الأشياء التي ستحتاجها الجولة من الطعام ومواقد الغاز والخيام وحقائب النوم وبالطبع زجاجات المياه على أن تكون بالعشرات. ولا يبدو أن هذه الأحمال الثقيلة تزعج الجمال التي ترقد في هدوء بينما يتم تثبيت السلال على ظهورها.
ثم يحين الوقت للبدء في الرحلة سيرا على الأقدام على الطريق الذي يمر فوق الرمال الحمراء التي تشع بالوميض، وتأخذ البيوت في الاختفاء بالتدريج عن الأنظار ولا يبقى شيء يمكن رؤيته سوى الصحراء.
ويتم ربط الجمال بعضها ببعض وتتحرك إلى الأمام في شكل أزواج، ويسود الصمت ويصبح كل ما يمكن سماعه هو صوت تحرك الإبل وأصوات السياح وخشخشة زجاجات المياه.
وبعد مرور وقت قصير يتم الإعلان عن أول مغامرة كبيرة بينما ينظر أحد المرشديْن السياحييْن اللذين يرافقان الجولة إلى الأفق ويصيح “ثمة عاصفة رملية ستهب علينا”.
وهذه العاصفة ليست مجرد رياح تثير بعض الرمال في الأنحاء، بل تصبح السماء رمادية اللون وتخفي الرمال وجه الشمس الحارقة، وتدور أطنان من الرمال في الهواء وتضرب بقوة البشر والحيوانات وتجعل الكلام مستحيلا، ويصبح من العسير الرؤية أو حتى التنفس ويلفّ السياح والمرشدان السياحيان ثياب البربر حول رؤوسهم ووجوههم.
وبمرور الوقت تشتد قوة الرياح لدرجة أنه يصبح من الأفضل إغلاق العيون تماما، ويركز كل فرد على تقدمه على الطريق وعلى أن يكون متصلا مع القافلة الصغيرة.
وتصل المجموعة أخيرا إلى تل من الرمال، ولأنه مستقيم ومرتفع وعريض، فإنه يصد الرياح كما أنه كبير بما فيه الكفاية ليقام على سفحه مخيم لتمضية الليلة، والآن أصبح بوسع كل فرد أن يتنفس مرة أخرى، وبعد فترة وجيزة تتم إقامة خيمة وتدخل المجموعة فيها ويبدأ المرشد السياحي في إعداد طعام العشاء وهو عبارة عن وجبة بسيطة مكونة من الأرزّ والخضراوات.
وبهدوء العاصفة في الصباح التالي، وعلى الرغم من ذلك يجد الرحالة أن الرمال التي أثارتها الرياح دخلت في كل مكان حتى في أفواههم وآذانهم، تشرع الرحلة في التحرك مرة أخرى عبر أراض رملية لا نهاية لها ويتقدم المرشد القافلة بينما يسير مرشد آخر خلفها في الوقت الذي تسير الجمال فيه منظومة بحبل.
وتعد المنطقة الواقعة حول كثبان الصحراء واحدة من أعلى النقاط، وأعلى تل رملي فيها يبلغ ارتفاعه 300 متر، ويقول المرشد الأمامي إن الرياح تصفر هنا على الدوام، ويحتاج تسلق الكثبان بعض الجهد لأن قدمك أو النصف الأسفل من ساقك ستغطس داخل الرمال مع كل خطوة.
ويمسك أفراد المجموعة أحذيتهم في أيديهم ويمشون بصعوبة وهم يرتدون الجوارب بينما تنفخ الريح طبقة رفيعة من الرمال فوق قمة الكثبان، غير أن المنظر من فوق القمة يخلب اللب ويستحق أن تبذل فيه مشقة التسلق.
ومثل هذه اللحظات ترسخ في الذاكرة وتجعل كل المصاعب محتملة، مثل اللحظات التي تشاهد فيها الشمس المتوهجة على الدوام أو القدم التي تعاني من البثور من طول السير أو تلك الفرص النادرة التي تتاح لك لكي تراعي أبسط إجراءات النظافة الشخصية. ثم هناك الطريقة التي تجتاح فيها الرياح بلطف الأشجار القليلة داخل واحة صغيرة توقفت القافلة عندها للحصول على قسط من الراحة في منتصف النهار وأيضا منظر الشمس وهي تختفي خلف الكثبان وتصبغ كل شيء بضوء أحمر ملفوف بالغموض.
ولعدة أيام لا ترى القافلة أي أناس آخرين ولكن الملل لا يمثل مشكلة حيث أن وجه الصحراء يتغير على الدوام، وأحيانا تغلب الرمال على هذا الوجه وترتفع فيه الكثبان وفي أحيان أخرى يكون الإحساس هو من يمشي على الرمال وكأنه مطاط يجعل المرء يكاد يقفز مثل الكرة المرتدة مع كل خطوة. ومن آن إلى آخر تظهر آثار الحياة البشرية التي تعايشت مع هذا المكان مثل أطلال مبنى قديم أو قطع من الخزف أو حتى عظام بشرية.
مملكتنا .م.ش.س