خــــطــــري الـــجـــمــــانـــي إبن الركيبات الذي ولد في باب الصحــــــــراء وتــــــــسلم مفاتيحهــــــــا
ولد خطري ولد سيدي سعيد الجماني سنة 1915 خارج باب الصحراء كلميم، وتحديدا في منطقة «لخصاص»، التي توجد بين بويزكارن وتيزنيت على مشارف الصحراء، في أسرة تعيش حياة الترحال وتقتات منه. نشأ الفتى نشأة محافظة بعد أن درس القرآن والفقه وهام على وجهه في أرض الصحراء الواسعة، إلى أن وصل إلى الحدود الموريتانية. ولأنه ينتمي لقبيلة الركيبات، كبرى قبائل الصحراء وسليل شجرة عرفت بالورع والتقوى، فقد ارتبطت حياة عائلة خطري بالتعليم الديني والتصوف، استنادا إلى سلالة ترتبط بعبد السلام بن مشيش، الجد الأعلى، دفين شمال المملكة، رغم أن جد العائلة الشيخ سيدي أحمد الركيبي يرقد في زاوية «مول الحبشي» بعيدا عن إقليم السمارة بحوالي 120 كلم، مرورا بوادي الساقية الحمراء.
ظل الفتى يتردد رفقة أفراد عائلته على ضريح سيدي أحمد الركيبي، الذي كان محل احترام من طرف القبائل المجاورة، ومع كل زيارة تقدم الذبائح والهبات للأب الروحي للقبيلة، ومانح الإشعاع الديني لعائلة خطري، بل إن الزاوية أصبحت مقصدا للطلبة وحفظة القرآن الكريم، قبل أن تلعب دورا سياسيا يتجلى في حماية الثغور الصحراوية من غارات المستعمر، وحصنا منيعا للإسلام في الجنوب. هذا الانتماء إلى الزاوية جعل عائلة خطري تستكمل كل مقومات الحسب والنسب التي انضافت إلى الجاه والحظوة المكتسبين.
في ظل هذا المناخ القبلي المحافظ، نشأ الفتى ولد سيدي سعيد، وقبل أن يشتد عوده توفي والده وهو على مشارف العقد الثاني من عمره، حينها أصبح في مواجهة صريحة لعوادي الزمن وصيا على العائلة، بل إن أفراد القبيلة «بايعوه» شيخا عليها في فترة زمنية كانت المشيخة لا تمنح إلا لمن اشتعل رأسه شيبا، وهي المهمة التي قبلها على مضض، لأنها ستجعله يجمع بين مهمتين أحلاهما مر، «تدبير شأن الأسرة والقبيلة» بأقل زاد من الخبرة.
حين عرض عليه شيوخ البيهات «الأمانة» رفضها جملة وتفصيلا، لكنه أمام إلحاحهم استجاب على مضض وقبل التعيين القبلي الذي لا يقبل الاعتراض، علما أن ولد خطري لم يطأ المدرسة، ولكنه من حفظة القرآن الكريم والعارفين بأصول الفقه والحديث.
المريد الذي إعتلى درجة الشيخ .
ولأنه شيخ القبيلة وحاكمها، فقد قرر مضاعفة الجهد واللجوء لبرنامج «استعجالي» يحول حياته من مرتبة المريد إلى مكانة الشيخ، مع ما ترتب عن هذا التحول الوظيفي من متغيرات مست حياته الخاصة والعامة، إذ أنه تزوج تسع مرات، وكان في بداية علاقته بالمشيخة صاحب أربع زوجات، قبل أن يقوم بتجديد «غرفة نومه» كلما اقتضت الضرورة القبلية، إذ طلق بعض زوجاته وتزوج بنساء من قبائل مجاورة في إطار «التلاقح» القبلي الذي يقلص في مجتمع صحراوي من حدة الخلافات والنعرات القبلية. وعلى امتداد فتوحات الرجل تمكن من إنجاب 26 ابنا وبنتا، حرص شخصيا على أن يعيشوا في «الدار الكبيرة»، كي لا يحصل تفكك لأواصر أسرة خطري، ويظل الجميع ينهل من التربية المحافظة نفسها. سيما وأنه كان يرفض القفز على النمط البدوي التقليدي حتى بعد أن ارتفع سقف مهامه. يقول ابنه سيدي غيثي الجماني لـ»المساء» إن والده رحمه الله «لم يكن يميز قط في علاقاته مع أبنائه، فقد كان يعاملنا المعاملة نفسها، والقول نفسه ينطبق على زوجاته المطلقات، إذ كن يحضرن إلى البيت لزيارتنا، وكنا نعاملهن كأمهات لنا، ولم يسبق له أن اعترض أبدا على دخولهن إلى البيت، لأنه كان مصرا على جمع شمل العائلة. كان الجميع يثق في والدي، وبالتالي كنا نثق في قراراته حتى وإن لم يتشاور مع أحد منا، وكذلك الأمر بالنسبة لزوجاته». ساهم هذا الزواج المنفتح على قبائل أخرى، في خلق تماسك قبلي بالمنطقة وتكريس دور الركيبات في حفظ السلم الاجتماعي، في مجتمع يعيش حالة اللاستقرار من شدة الترحال والتحولات التي كانت تعرفها المنطقة.
في تلك الحقبة الزمنية كانت الحكمة والتدين والوجاهة من معايير بلوغ مرتبة شيخ القبيلة، فحين توفي سعيد الجماني استقر رأي كبار القبيلة على ابنه خطري، ليس من أجل ضمان مشيخة وراثية بل لما ميز شخصية الشاب، علما أنه لم يتلق تعليما نظاميا، إلا أن مكانته فاقت سنه وحرصه على حل مشاكل البسطاء رفع «كوطته» وجعله يحظى باحترام الكبير والصغير، ونال بالتالي الإجماع القبلي للركيبات.
حين تنكر خطري في لباس امرأة .
شعر الصحراويون بوجود قوة استعمارية تحتل أراضيهم، فانضموا إلى قوات جيش التحرير، التي كانت تسعى إلى «كنس» الجنوب المغربي من الإسبان الذين تقاسموا مع الفرنسيين كعكة المغرب مناصفة. لعب خطري وغيره من الصحراويين دورا كبيرا في تأسيس جيش التحرير بعد لقاء تاريخي مع قيادات الحركة الوطنية بالشمال. وفي مدينة كلميم تم وضع اللبنة الأولى لهذا التنظيم الذي اختار المقاومة المسلحة لطرد القوات الاستعمارية، وأبان أبناء المنطقة عن بسالة وإقدام في كثير من المواجهات التي وضعتهم في رحى المعارك، أبرزها موقعة الدشيرة سنة 1956 والتي دامت أسبوعا كاملا تكبد فيها الإسبان خسائر مادية وبشرية جسيمة.
يحسب لخطري نضاله في صفوف جيش التحرير، ويسجل التاريخ أنه بعد استقلال المغرب سنة 1956، تم توقيف نشاط جيش التحرير، إلا أن الرجل كان يطالب على غرار كثير من الصحراويين بالاستمرار في الكفاح، قبل الانصهار في الجيش المغربي النظامي، «لأن الاستقلال الشامل لم يحصل، وأنه لا بد من استمرار الكفاح ومقاومة الاستعمار»، وهو المطلب الرئيسي لتجمع أقيم في جنوب طانطان غير بعيد عن أخفنير في منطقة تدعى واد شبيكة، وأصبح للكفاح ضد المستعمر تتمة في الجنوب من خلال مواجهات دامية ضد الإسبان الذين مددوا مقامهم في المغرب رغم انسحاب حليفهم الفرنسي.
يروي محمد باهي في كتابه عن خطري ولد سعيد الجماني، مجموعة من الحقائق التي لامست شخصية وصفها بالأسد الجريح الذي أنقذ الصحراء مرتين، ويقول إن شيخ الركيبات «كان عضوا في جيش التحرير سنة 1957، وحدث أن وقعت خلافات داخل قيادة الجيش المذكور، وكان الجماني مهددا حينها بالاغتيال والاختطاف من طرف قيادة جيش التحرير كإدريس بن بوبكر وبنحمو وآيت يدر وغيرهم، حدثت بعض المتغيرات داخل جيش التحرير لم يستطع الصحراويون فهمها، لذا لم يتعاطفوا مع بعض الأفكار التي دعا إليها أولئك القادة، ولذا فقد تعرض العديد من الصحراويين للاختطاف، وحينما وصلت الأخبار لخطري ولد سعيد الجماني بأنه معرض للاختطاف والاغتيال، ارتدى لباس النساء وركب ناقته وخرج من بين الجنود الذين كانوا مكلفين بحراسته، ثم دخل إلى المنطقة التي كانت تحت سيطرة الجيش الإسباني، وطلب اللجوء السياسي من الحكومة الإسبانية، فكان أن تبنته هذه الأخيرة ووفرت له الحماية، وبذلك أنقذ نفسه من موت محقق في كَلميم، كما وفر للمغرب أفضل شخص صحراوي يمكنه أن يدافع عن قضية الصحراء أمام الإسبانيين».
عاد خطري إلى مواقعه الصحراوية سالما، في وقت نجحت فيه القوات الاستعمارية الإسبانية في بسط سيطرتها على الصحراء، مما أجج الوضع وحول المنطقة إلى بؤرة للتوتر، في وقت كان فيه شمال المغرب يعيش أول أيامه كبلد «مستقل».
مملكتنا م.ش.س