قدرها أن تكون ولاّدة الأبطال في زمن مضى، وقدرها اليوم أن تتحول إلى ملجأ يقصده المشردون والسكارى. تغيرت معالم الشوارع والأزقة المحيطة بها، لكنها لا تزال وحدها تقاوم تحالف النسيان والوعود الكاذبة.
قدرها أن تكون ولاّدة الأبطال في زمن مضى، وقدرها اليوم أن تتحول إلى ملجأ يقصده المشردون والسكارى. تغيرت معالم الشوارع والأزقة المحيطة بها، لكنها لا تزال وحدها تقاوم تحالف النسيان والوعود الكاذبة.
ملعب “حديقة الجامعة العربية”، أو كما يسميها أبناء الدار البيضاء “كازابلانكيز”، كانت مدرسة لتكوين العدائين الرياضيين، حيث أنجبت من بينهم اسمين حلقا عاليا في سماء أم الألعاب، سعيد عويطة ونوال المتوكل، لكنها ظلت أسفل سافلين، حالها خلال زيارتنا لها صبيحة يوم الاثنين 12 ماي من السنة الجارية، يخبرك أن كل الوعود تكسرت عند أسلاك سورها، إذ لم يشفع لها تغير معالم كل ما يحيط بها، تغير شارع “الحسن الثاني” الذي اخترقته سكة “الترامواي” بمحطاتها الأنيقة، وقد شيدت على طول شارع “عبد الرحمان السلاوي” بنايات عصرية تحاكي أفخم بنايات دول تقدمت كثيرا..شارع “مولاي يوسف” هو كذلك نال نصيبه من الاهتمام، وهي التي كانت بالأمس ومنذ تشييدها أواخر سنوات الثلاثينيات متبرجة بالزهور تتغنج بجمال طلائها وفضاءاتها، تختبئ محتشمة تحاول أن تمنع بمظهرها الخارجي البئيس ولوج مكان أصبح موطنا للمتشردين والكلاب الضالة.
إلى وقت قريب قبل أن تتساقط كل أطلال المكان، كانت لا تزال حلبة سباق ملعب “حديقة الجامعة العربية”، تعج ببعض من الذين أدمنوا الركض بين أحضان بنايتها، ترمق عيناك أبا يشجع ابنه أو طفلته على مسابقة الريح، يرى فيهما غدا هشام الكروج، أو السكاح، أو نزهة بدوان، وغيرهم من الأبطال المغاربة الذين تنافسوا في حلبات عالمية كبرى، كان الصياح يعلو المكان، والكل غير مكترث بما حوله من مشاهد مقززة، عنوانها بنايات متآكلة، وبشر وجدوا ضالتهم هنا لاحتساء بعض كؤوس الخمر أو سرقة لحظة متعة جنسية بعيدا عن أعين رجال الأمن.
خلال التساقطات المطرية الأخيرة شهر أبريل، حرمنا من ممارسة رياضة الجري داخل فضاء “كازابلانكيز”، يقول بوشعيب، رجل في عقده الرابع، لا يزال يفضل ممارسة رياضته بالقرب من فضاء الملعب، ويضيف في حديثه لـ”مغرب اليوم” بلغة لم تخل من الاحتجاج “في كل مرة يقولون إن الملعب سيصلح، ويعدون بتغيير ملامحه، لكن يبدو أن هناك من لهم مصلحة في تركه على حاله”، موقف يبدو أنه سيتغير مستقبلا إن أوفت المصالح التي تشرف على الملعب بتعهداتها التي قطعتها على نفسها، وأولها ما جاء على لسان الوزير محمد أوزين، الذي بشر البيضاويين خيرا بخصوص إحدى معالمهم، وذلك ما يظهره بند خاص في قانون المالية الخاص بسنة 2014، والذي خصص ميزانية لإعادة تأهيل ” كازابلانكيز”، كما وعد مجلس مدينة الدار البيضاء بأن يشمل المخطط الاستعجالي الموجه للمدينة عمليات إعادة إصلاح وتأهيل الفضاء.
وعود لم يصدقها من ألقيناها على مسامعهم من هواة الجري الذين لا يزالون يطوفون الفضاءات الخضراء المجاورة للملعب، وحجتهم في ذلك وعود سابقة لم يتحقق منها شيء.
عند مدخل “كازابلانكيز” لا شيء يخبرك بما هو موجود في الداخل، أشبه بـ”خربة” أو أرض خلاء تركها أصحابها على حالها، قبل أن تقفلها برك الأمطار شهر أبريل المنصرم، كان بعض الشيوخ والشباب من الصامدين متشبثين بالاستفادة مما لا يزال داخلها من مرافق رياضية، يمنون النفس بأن يستفيقوا ذات صباح على مشهد مغاير لما ألفته أعينهم، وكبار السن منهم من الذين عايشوا الفضاء في سنوات خلت، يتمنون في قرارة أنفسهم أن يعود الحال كما كان عليه، يقول أحد عابري السبيل أمام الملعب “كون غير يردوها غير كيف كانت ما عدهم ما يزيدو فيها، راه زيادة غادي غير تعطل الخدمة فيها، وغادي يبداو الفهيمية كي شيطو لريوسهم وما تبدل حتى حاجة”..لماذا كل هذا التشاؤم وعدم تصديق الوعود بالإصلاح؟
الجواب على السؤال، هو ما حدث على عهد والي مدينة الدار البيضاء السابق بوسعيد، والذي جمع في مقر ولاية الجهة كل من محمد ساجد عمدة المدينة، وكل من حميد فريدي مستشار الوزير بحضور رئيس مجلس العمالة ورئيس مقاطعة سيدي بليوط وعامل “أنفا”، اجتماع تم يوم 10 يناير من سنة 2012، قيل فيه إن مسألة إعادة الاعتبار إلى”كازابلانكيز” حسمت، وكشف عقب الاجتماع أن وزارة الشباب والرياضة رصدت مبلغا أوليا للمساهمة في عملية إصلاح الملعب، ينضاف إليه مبلغ أكبر من الوزارة ومن مجلس المدينة، بعدما تبين خلال الاجتماع المذكور، أن العملية ستتطلب استثمارا ضخما من أجل تحويل “لاكازابلانكيز” إلى معلمة رياضية مفتوحة في وجه ممارسي ألعاب القوى والملاكمة والمصارعة والجمباز، ماذا تحقق اليوم من كل هذا؟ لا شيء أبدا.
قبل اجتماع الوالي السابق والعمدة ومستشار أوزين بالإضافة إلى مجموعة من المسؤولين المحليين بالعاصمة الاقتصادية، كانت وزير الشباب والرياضة السابقة نوال المتوكل، قد وعدت بأن تتكفل شخصيا بملف إعادة الاعتبار لمكان له الفضل في سطوع نجمها، انتهت مهمتها على رأس الوزارة ولم تتغير حال من أوصلتها بطريقة أو بأخرى إليها، ثم بعد كل هذا كان مجلس مدينة الدار البيضاء قد أقر مرة أخرى في اجتماع بتاريخ 21 مارس 2013 خلال دورته العادية لشهر فبراير من نفس السنة، مشروع اتفاقية مع وزارة الشباب والرياضة٬ بغرض تأهيل وتدبير الفضاء الرياضي “كازابلانكيز”، لا بل حمل المشروع كما أعلن المجلس ذلك حينها وعودا وردية لعشاق الفضاء الرياضي، وهي “بالإضافة إلى إعادة تأهيل البنيات التحتية الرياضية والإدارية، استصلاح وترميم و تجديد فضاءات اللعب (الملاعب المعشوشبة، مضمار ألعاب القوى)، التجهيز ، وتوفير الأطر الرياضية ذات الكفاءة العالية وكذا الإدارية”.
جاءت سنة 2014 ومعها مخطط استعجالي فرضته غضبة ملكية على مدبري الشأن المحلي للدار البيضاء، وجاء كذلك قانون مالية الحكومة لهذه السنة، وهما معا يتضمنان مبالغ مالية مرصودة لمغبونة الجميع، فهل يتكرر نفس السيناريو؟ وهل تذهب كل وعود الإصلاح والترميم أدراج الرياح كما ذهبت سابقاتها؟.
يلف ملف إعادة إصلاح وتأهيل “كازابلانكيز” الكثير من الغموض، ففي كل مناسبة يعلن فيها عن إقفاله قصد بدأ الأشغال فيه، تحذر جهات عديدة وخاصة جميعات المجتمع المدني وبعض الرياضيين المدمنين على فضائها، من أن الغاية هي تخدير الجميع لنسيان ما كانت عليه “كازابلانكيز”، ثم الانقضاض على وعائها العقاري المسيل للعاب، تنتشر الإشاعات ما من مرة، وتزكيها سقوط وعود المنتخبين والمسؤولين في فخ عدم الوفاء بها، حتى التصقت بأذهان البيضاويين العاشقين لـ “كازابلانكيز”، أن هذا الفضاء الاستراتجي في قلب أكبر مدن المملكة مصيره مستقبلا هو حاضنة لعمارات شاهقة على حساب إرثه الرياضي التاريخي.
وفي انتظار المستقبل القريب، يعلق بوشعيب الذي تحدثت عن واقع “كازابلانكيز”، بحكمة المغاربة “تبع الكذاب حتى الباب الدار”، وحجته في ذلك عدم تغير واقع فضاء أدمن ممارسة الرياضة داخله، تعريه في كل سنة التساقطات المطرية، ويفضح واقعه نباح كلاب مسعورة تهدد سلامة من يخاطرون بأنفسهم في سبيل صحتهم، بين أحضان “كازبلانكيز” ضحية النسيان والوعود الكاذبة .
مملكتنا .م.ش.س