عداء مغربي عمل من أجل إعلاء راية وطنه ما زال يحتفظ بالرقم القياسي الذي أحرزه في الرابع عشر من يوليو 1998 في روما.
صنع أمجاده بنفسه متغلباً على واقعه المرير واعتمد على الطبيعة ليتدرب على الصبر والتحمل، حمل بجسده النحيل أحلام العرب الأولمبية والعالمية وكان رمزاً لأم الألعاب، يرفض فكرة التجنيس والبحث عن المغريات المادية لأنه لا يرى في بطولاته مجداً شخصياً بل مسؤوليةً تجاه وطنه، هو العداء المغربي العالمي هشام الكروج.
ولادة الـــنـــجــــم فــــي بــــركــــان
ولد هشام الكروج في مدينة بركان المغربية في الرابع عشر من سبتمبر عام 1974، مارس كرة القدم في بداياته وعُرِفَ كحارس بارع بين أصدقائه في الحي، وكان يحدثهم عن حلمه بأن يصبح حارساً مميزاً مثل المغربي بادو زكي، لكن والدته نصحته بممارسة رياضة العدو لأنه كان يعود بثياب متسخة دوماً، ونجح الكروج ودون تدريب أن يدخل رياضة الجري ويحقق المركز الثاني في البطولة المدرسية، ظهرت حينها قدرته على الصبر والتحمل، واستغل وجود مدرب في حيه الشعبي يدعى عجاج المختار ليستفيد منه في صقل موهبته.
بات لدى الكروج حلم جديد بعد ممارسته الرياضة الجديدة، أن يصبح كالعداء المغربي ذي الشهرة العالمية سعيد عويطة، وكانت حينها المغرب تصحو وتنام على أخبار العويطة والعداءة نوال المتوكل وهما يحطمان الأرقام القياسية أينما حلَّا، ويطغيان على أخبار الصحافة أكثر من أيّ لعبة أخرى.
دعّم المدرب عجاج المختار هشام وتبنى حلمه العالمي، حقق معه بطولة المغرب للعدو الريفي وسجل رقماً قياسياً في كأس الفتيان بزمن 3:51 دقائق وتوج ببطولة المغرب لسباق 1500 متر، كان والده يعمل بائعاً جوالاً على عربة صغيرة بينما الكروج عمل ميكانيكياً في مرآب وكان يحاول أن يبقي حذاءه نظيفاً حتى لا يهزأ منه أصدقاؤه، وعندما بلغ الكروج سن 16 عاماً انضم إلى المعهد الوطني لألعاب القوى بالرباط، وبدأ يتدرب هناك على يد المدرب قاده عبدالقادر عام 1991، وفي العام التالي بدأت المسيرة الفعلية للشاب ذي البنية النحيلة، فحقق المركز 14 في بطولة العالم التي أقيمت في بوسطن الأميركية بمشاركة أبطال كبار (هاري كيبر سلارسي وإسماعيل كيروي)، وأحرز في العام ذاته المركز الثالث في سباق 5000 متر في سول.
الــســقــــوط فــــي أطــــلانــــطـــــا
عندما تولى العداء المغربي الشهير سعيد عويطة إدارة ألعاب القوى في المغرب عام 1994، قدم نصيحة للكروج غيرت مسيرة حياته الرياضية، نصحه بأن ينتقل من سباقات 5000 متر إلى 1500 متر، عاد من جديد الكروج ليتدرب عند قاده عبدالقادر، لم يكن أمراً سهلاً فأم السباقات 1500 متر كما يسميها العداؤون تتطلب مجهوداً كبيراً وتحمل مصاعب ليس من السهل تجاوزها، لكن صبره وعزيمته فاقا كل التوقعات، بدأ الكروج يسير في الاتجاه الصحيح الذي رسمه له نجمه المفضل سعيد عويطة وخاض أول مشاركة له في بطولة العالم لألعاب القوى غوتنبرغ 1995، خطف حينها الميدالية الفضية خلف الجزائري نورالدين مرسلي ولم يكن يتجاوز العشرين من العمر.
وفي عام 1996 اتجهت كل الأنظار لتشاهد المواجهة المرتقبة بين الجزائري مرسلي والمغربي الكروج في أولمبياد أتلانتا وقد مضى عام بذل فيه الكروج الكثير من الجهود استعداداً لهذه المواجهة، انطلق السباق لكن الدورة الأخيرة حملت معها نكبةً مخيبةً له بعدما ارتطم بالعداء الجزائري مرسلي وخرج من المنافسة ولم يتوقف عن البكاء في المضمار وخارجه، الكثيرون قالوا إن الحادثة لم تكن عفوية لكن مرسلي لم يهمل دموع الكروج وتوجه إليه عقب السباق وعانقه بشدة مؤكداً أنه لم يقصد الإطاحة به عمداً.
بعد شهر من حادثة أتلانتا الشهيرة التقى الكروج ومرسلي مجدداً في ميدان واحد، كان ذلك في نهائي الجائزة الكبرى في ميلانو، لقد احتفظ هشام بصورته وهو يبكي بعد السقوط وعزم على الثأر من هزيمته في أتلاتنا وكان له ذلك بعدما أحرز الميدالية الذهبية.
الإعـــــتــــزال الأول
لم تقف آمال الكروج عند ميداليات المعدن النفيس التي أحرزها في البطولات العالمية، لقد كان لألقاب الأولمبياد طعم خاص بالنسبة إليه، فجميع النقاد اتفقوا أن منصة 1500 متر الذهبية في سيدني 2000، ستكون محـجوزة للكروج وكانوا يقلبون في بقية الأسماء لملء الشواغر الفضية والبرونزية، سيطرته المطلقة على الذهب لأربعة أعوام كانت دليلاً آخر يثبت صحة نظرياتهم، بدأ سباق 1500متر والكروج في المقدمة طيلة مراحل السباق لكن الثواني الأربع الأخيرة قلبت الموازين بعد أن تقدم العداء الكيني نواه نغيني في الأمتار الأخيرة وخطف الذهب.
حصول الكروج على المركز الثاني لا يعتبره الرياضيون فشلاً لكنه كان كذلك بالنسبة إلى عشاق الكروج والصحافة الرياضية المغربية التي اعتادت على أن يكون بطلاً ذهبياً، فشنت حملة إعلامية كبيرة عليه جعلته يجلس في منزله طويلاً ويعلن لجماهيره الاعتزال بسبب الصدمة النفسية التي تلقاها.
لم يتقبل الوسط الرياضي المغربي مسألة اعتزال الكروج، وبدأت الوساطات في محاولة منها إقناعه العدول عن قراره، تدخلت شخصيات مرموقة من الجامعة المغربية لألعاب القوى والكوادر الرياضية المحيطة بالكروج وأصدقائه، ونجحت بالفعل في إقناعه ليعود بإصرار أكبر على رد الاعتبار، وكان على الكروج أن يحضر جيداً لإرضاء عشاقه، توجه إلى مدينة أفران ميدان التدريب الطبيعي التي ترتفع أكثر من 1500 متر عن سطح البحر، المدينة الملقبة بأم العدائين التي يعتاد من يتدرب فيها على تحمل المشقة والصعاب نظراً لانخفاض نسبة الأكسوجين هناك، كان للكروج ذكريات جميلة فيها عندما كان في الخامسة عشرة من عمره اعتاد على الجري والتنقل من منزله بمدينة بركان وسط شمال المغرب إلى جبال الأطلس المتوسط، وذات يوم غضبت والدته منه مشفقةً عليه من كثرة الجري والتنقل بينهما لمسافات طويلة، فأجابها الكروج “سأكون يا أمي خليفة سعيد عويطة في المغرب، إنه قدري”.
كل الميداليات في خزائنه كانت تحصيل حاصل بالنسبة إلى هشام المتطلع لكسر العقدة الأولمبية في أثينا 2004، جاء الموعد وأراده الكروج خياراً واحداً لا ثاني له، موعداً للتاريخ وكان له ما أراد عندما قلب الموازين في الأمتار الأخيرة لسباق 1500 متر وأحرز الذهبية التي حلم بها طويلاً، انهمرت دموع الفرح وسجد لله شاكراً ثم توجه إلى عائلته ورقص على صفقات الجماهير، ثم أطلق مفاجأة مدوية حين أعلن دخوله سباق 5000 متر وأضاف الميدالية الذهبية الثانية لسجله، وأعلن اعتزاله عام 2006 نتيجة إصابة ألمت بظهره أثناء مشاركته في بطولة الصالات المغلقة بموسكو، ليغلق خلفه كتاباً يروي سطوره المرصعة بالحروف الذهبية مسيرةً حافلة بالإنجازات.
لا يزال هشام الكروج يحتفظ بالرقم القياسي الذي أحرزه في الرابع عشر من يوليو 1998 في روما وقدره 3:26 دقائق، وكرم الاتحاد الدولي لألعاب القوى خلال حفله السنوي الذي أقيم في موناكو اثني عشر بطلاً أسطورياً في رياضة ألعاب القوى كان من بينهم هشام الكروج، ومنحته أسبانيا جائزة أمير أستورياس إحدى أهم الجوائز الرياضية في أسبانيا، ووشّحه ملك المغرب محمد السادس بوسام العرش من درجة قائد، اختير بطلاً لأبطال الرياضة لعام 2004 متر في الاستفتاء الذي أجرته صحيفة “ليكيب” الفرنسية، لقد اعتبره السنغالي الأمين دياك رئيس الاتحاد الدولي لألعاب القوى أسطورةً حيةً لأمّ الألعاب، وطالب العداء البريطاني سيبستيان كو حامل اللقب الأولمبي مرتين في سباق 1500 متر أن يقام للكروج نصب تذكاريّ تقديراً لإنجازاته في ألعاب القوى، واعتبرته العداءة الأولمبية المغربية نوال المتوكل معلمةً رياضيةً وقدوةً للأجيال الصاعدة ومثالاً للوفاء والإخلاص.
مملكتنا .م.ش.س