عبق التاريخ لازال حاضرا في تجلياته الحضارية والثقافية بجهة كلميم واد نون
دأب الناس منذ أن شِيءَ لهم أن يستوطنوا الأرض على الحركة والانتشار فيها، بحثا عن المياه ، عن الكلأ، عن الأراضي الخصبة للزراعة، عن الملاجئ الآمنة، احتماءًا من الحر والقر ومن بطش أعداء حقيقيين أو محتملين .
أيضا تحرك الناس عبر بقاع الأرض قبل بداية تدوين التاريخ، للتجارة والمقايضة ، للتطبيب ، للتعلم واكتشاف الحقيقة والآخر، وتحرك الناس للسطو والنهب وبسط النفوذ، وتحرك الناس للدعوة لأديان جديدة أو لطمسها، وتحرك الناس نحو مزارات وأماكن مقدسة، ونحو أسواق كبرى انبثقت عنها حواضر وحضارات، منها الشاهدة ومنها الغابرة .
وإجمالا فإن حركة الأفراد والمجموعات لم تنقطع عبر الأزمنة ، وكانت في الغالب مجلبة للخير والنفع، مباشِرَينِ كانا أو غير مباشرين وعلى مستويات عدة : ماديا، حضاريا، خبراتيا، معرفيا، علميا، فنيا وثقافيا. وسميت هذه الحركة بأسماء مختلفة : السير، الترحال، التجوال ، الغزو، التنقل، الحج والسياحة .
وحددت القوافل طرقا وممرات عبر التضاريس المختلفة الوعرة منها والسهلة، تخللت قرى صغيرة وأخرى كبيرة، إما مراكز عبور أو محطات تجارية، طورت ساكنتها شيئا فشيئا أساليب الضيافة، من الرفادة (الضيافة المجانية) إلى الضيافة المؤدى عنها. وأنشأت لذلك مآوي للمبيت (فنادق)، مطاعم وإسطبلات.
وقد تطورت الأمور بتطور وسائل النقل الجوي والبحري والبري، وبظهور فئات اجتماعية جديدة ، أفرزتها الثورة الصناعية في أوروبا، أرستقراطية وبورجوازية، زاد طلبها على الأسفار والترفيه، إلى أن أصبحت السياحة على ما هي عليه الآن ، قطاعا اقتصاديا مهيكلا ومهما، يجمع بين التدبير الحكومي (وزارة، مندوبيات، مديريات، ميزانيات للاستثمار والدعم استراتيجيات عمل، موارد بشرية مهمة)، الإنتاج الصناعي ( وحدات صناعية للمعدات والتجهيزات والأدوات والأفرشة)، الإنتاج الخدماتي (مؤسسات فندقية، فضاءات ترفيهية، وكالات أسفار، شركات نقل)، والإنتاج العلمي (مؤسسات للتعليم المتخصص والبحث العلمي والتكنولوجي والخدماتي).
وما فتئ هدا القطاع أن أصبح له اعتباره في حجم المعاملات التجارية الدولية وكدا في الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية للعديد من الدول، من حيث الناتج الداخلي الخام، من حيث المداخيل الضريبية ، من حيث تنشيط الدورة الاقتصادية وجلب الاستثمارات والعملة الصعبة، من حيث التشغيل وامتصاص البطالة، من حيث التسويق “للعلامة الوطنية” وتثمينها، ومن حيث التلاقح الحضاري وفعل المثاقفة والانفتاح على الآخر والاستئناس به.
وكل هدا كان هدفا ونتيجة في الآن ذاته في غضون القرن العشرين لما تكون فكر جديد في المجال ، سار في اتجاه “دمقرطة السياحة”، حولها إلى عادات حياتية ضرورية بعدما كانت كمالية، الأمر الذي سرع بالطفرة النوعية التي عرفها الاستهلاك السياحي، ونتج عنه الإبداع في أنواع المنتجات السياحية، التي سنعرض لها في الحديث عن كيفية استثمارها في كلميم الإقليم والمدينة، ودلك بعد مَسحٍ لبعض الجوانب الأنتروبولوجية للمنطقة، تبرز من خلالها المؤهلات البشرية، الثقافية، الطبيعية، التاريخية والجغرافية لهده الأخيرة، والتي يمكن اعتمادها دعامات قوية لما قد يكون الرافعة الأساس للاقتصاد المحلي، وأعني ” السياحة” ، مرحليا على الأقل في انتظار النهوض بقطاعات أخرى..
كلميم الحاضرة التي تُعرف بألقاب متنوعة ، منها التاريخي ( سوق الإبل)، والجغرافي (بوابة الصحراء واد نون )، والإداري ( المركز الإداري للإقليم مركز جهة كلميم السمارة )، والتجاري ( المركز التجاري للجهة)، والأمني ( مدينة الحامية العسكرية) ، ولعل أعز ما تحتفظ به الذاكرة الشعبية ويعتبر مصدر فخر شعبي لأنه تجاوز المحلي إلى القاري في الشهرة ، هو لقب “سوق الإبل” الأكبر في إفريقيا، وذلك منذ القرن الحادي عشر ميلادي، إذ كانت تتجمع فيه قوافل الرحل بقطعان يتراوح تعدادها بين العشرين والأربعين ألف رأس من الإبل، وكان ملتقى القوافل التجارية الآتية والمتوجهة من وإلى موريتانيا،السنغال، مالي، النيجر وبلدان أخرى كانت دائما تشكل عمق المغرب الإفريقي، في إطار تجارة البشر، الملح، الذهب وبضائع أخرى لا تقل عنها أهمية. إلا أنه ابتداءً من ستينيات القرن الماضي، وإثر نشوب الخلاف حول الصحراء، واندلاع حرب الرمال، قُطعت سبل التواصل مع جنوب الصحراء، وتقلصت حركة الرحل في المنطقة، وتراجعت بذلك عروض سوق الإبل الكبرى في أفريقيا، إلى أن أصبحت محطةكلميم لا تعدو عن كونها سوقا أسبوعيا فحسب ، لكن عبق التاريخ لازال حاضرا في تجلياته الحضارية والثقافية:
– عبر الذاكرة المدونة في شواهد مخطوطة، منقوشة، مرسومة أو مصورة،
– في فنون العيش المتجلية في الأثاث المنزلي، في الخيمة مأوى الرحالة الصحراوي، في الأواني المنزلية، في الآلات الموسيقية، في اللباس والحلي، في أدوات ومواد الزينة، في أدوات النسج والحياكة، في الأسلحة والسروج وأدوات الصيد البري، والمُؤرِّخة للمرحلة، شواهد محسوبة في الأنتروبولوجيا وبخاصة في علم الآثار على التراث المادي المنقول ،
– عبر الذاكرة الشعبية في الأشعار(الكاف ) والأمثال والحكايات والأحجيات، في بعض العلوم والمعارف والخبرات التي عُِرف بها الرحل وخاصة العرب منهم (علم الرجال، علم الأنساب القيافة ، الفراسة، علم اقتفاء الأثر، علم سبر مواقع الماء، الطب التقليدي والتداوي بالأعشاب والكي والتدليك والحجامة ولبن الإبل وذهنها وبولها الًفّاك ) والمحسوبة على التراث الشفهي والمعنوي،
– في مختلف مظاهر التجمعات الاحتفالية ذات الطابع الاجتماعي (خطوبة ،زفاف، عقيقة، معروف، وفاة…)، أو ذات الطابع الديني من أعياد وتجمعات موسمية قبلية (المعروف)،أو حول الأضرحة (ما يصطلح عليه في اللفظ الدارج العربي ب “الموسم” وفي الأمزيغي ب “أموكار” : موسم سيدي الغازي بكلميم سيدي أحمد بن عمار بأسرير) المعبر عنها بالتراث المعنوي أيضا ،
– وعبر الذاكرة الجغرافية المتمثلة في القصبات والدور الكبرى والآبار الشاهدة على مسارات ومحطات القوافل ، ما يصطلح عليه في نفس العلم المذكور بالتراث المادي الثابت .
مملكتنا.م.ش.س/و.م.ع