تتميّز الزربية المغربية بمهارة وإتقان على اختلاف صناعتها بين المدن والقرى، وهي تعبير عن التقاليد المغربية والعادات الشعبية، وتفصح عن الأفراح والمعاناة التي تعيشها مبدعاتها من النساء.
وتختلف الزربية من منطقة إلى أخرى، وكل منطقة لها خصوصيتها في إنتاج الزربية، ففي المدينة نجد الزخارف العربية والأندلسية كما في الزربية الرباطية، أما في الأرياف والقرى فقد تفنّنت النساء الأمازيغيات في رسم الأشكال والرموز البسيطة.
وتحاول الحكومة المغربية تنشيط تجارة هذا المنتج الحرفي الذي يواجه منافسة شرسة من السجاد الآلي والمستورد بثمن رخيص من خلال المعارض المحلية والدولية.
تتواصل فعاليات الدورة الثالثة لمعرض الزربية المغربية في الرباط إلى غاية الأحد الموافق لـ6 من شهر يناير تحت شعار “الزربية المغربية هوية واستثمار”، بمشاركة حرفيين مهرة من النساء والرجال من مختلف أنحاء البلاد، في مشهد يجسّد التراث الغني بالرموز الثقافية الممثلة للتعددية التي تزخر بها الهوّية المغربية.
وبهذه المناسبة يؤكد رئيس غرفة الصناعة التقليدية بالرباط، عبدالرحيم زمزمي، أن هذا المعرض يشكل موعدا سنويا يروم جمع الصناع التقليديين النساجين من مختلف مناطق وجهات المغرب وخلق فضاء لتبادل التجارب في ما بينهم.ويسلّط المعرض الضوء على المرأة المغربية في الريف والمدينة التي راكمت على مر السنين خبرة فنية تنقلها من جيل لآخر، لتنسج ملحمة الزربية الثمينة، سواء من حيث ثرائها أو تاريخها وأصولها.
ويعتبر المغرب من بين البلدان التي تشتهر بصناعة الزربية أو السجاد العربي والسجاد الأمازيغي منذ المئات من السنين، كما تعتبر الزربية الأمازيغية التقليدية المصنوعة بطريقة يدوية من أشهر وأجود منتجات قطاع الصناعات الحرفية.
وتواجه الزربية اليدوية منافسة كبيرة من قبل السجاد الآلي المستورد، حيث بدأ الناس يتجهون إلى شرائها لرخص ثمنها، على الرغم من أن وجود الزربية التقليدية في البيت يشكل تراثا في المغرب، لأنها منسوجة باليد، كما أن أنواع الصوف المستعملة طبيعية وليست كتلك المصنوعة بالآلات الميكانيكية.
ويقول الحاج حبيب (متقاعد)، “بدلا من أن أشتري زربية تقليدية مصنوعة باليد تكلفني خمسة آلاف درهم، يمكنني أن أقتني زربية مصنعة بـ1200 درهم، أي ما يعادل 125 دولارا أميركيا”، ومع ذلك فإن عددا من المغاربة مازالوا يصرون على تأثيث صالوناتهم بالزربية اليدوية التي لها خصوصيتها وجمالها، كما أن اهتمام الإدارات الحكومية كبير جدا بالزربية الحضرية، ولا يكاد يخلو مكتب أي وزير مغربي أو مسؤول رفيع المستوى من الزربية الرباطية التقليدية.
وخلال زيارته للمعرض، قال محمد ساجد وزير السياحة المغربي، إن هذه التظاهرة تبرز عمق الحضارة المغربية وأصالتها التاريخية، مشيرا إلى الارتفاع الكبير لرقم معاملات المغرب في هذا القطاع بارتفاع هائل بالنسبة إلى الصادرات، مؤكدا على أهمية الترويج للمنتوج الصناعي التقليدي لأن فيه ترويجا للحضارة المغربية من خلال تواجد هذه المهارات الحرفية داخل المعارض المحلية والعالمية.
وفي المعرض يتواجد مختصون في الزربية المغربية يقدمون شروحا علمية للعديد من التصاميم العتيقة منها والجديدة والأشكال المستعملة في مختلف أنواع الزربية وبعض أنواع المناسج والأدوات التي تدخل في صناعة الزرابي وعملية الغزل والعقد المطبقة وتحضير المواد الخام وإعدادها للنسيج مع تقديم عروض حول الزخارف والتلوينات المستعملة.
النساء ينسجن والرجال يبيعون
ألوان ورموز
يقول المختصون في الصناعات التقليدية، إن هناك نوعين للزربية المغربية: زربية الحضر وزربية الأرياف والقرى، زربية الحضر تصنعها نساء المدن من العرب في الأساس، وتكون كثيفة النسيج، وعادة ما تتضمن أشكال زهور، وتتركز صناعتها في الرباط ومدن مغربية أخرى.
أما زربية الأرياف والقرى، فتختص بنسيجها النساء الأمازيغيات، وتتميز بتصاميم هندسية بسيطة ومختلفة الأحجام، ونادرا ما تضم رسوم هذا النوع من الزرابي أشكال طيور أو حيوانات أو أشخاص، وهناك أيضا أنواع مختلفة من الزربية الريفية، فكل قبيلة أمازيغية لها تصاميمها الخاصة التي تتفنن في نسيجها نساء خبرن حرفتها بالوراثة.
وتقول رجاء الغندور، المسؤولة عن التحف الفنية في المؤسسة الوطنية للمتاحف بالمغرب، إن الزربية المغربية عموما تتميز بلونها الأحمر القاني، ويطغى على موادها الصوف الخالص أو القطن، وتزيّن بالأشكال المميزة التي تشتهر بها دول المغرب العربي والحضارة الأندلسية، لكن هذه المعايير تختلف من منطقة إلى أخرى، ما ساعد على وجود أنواع كثيرة من الزرابي داخل البلد الواحد.
وتشير إلى أن الزربية المغربية تعرف بانحناءاتها وأشكالها الهندسية، وتتنوع الألوان المستعملة فيها من منطقة إلى أخرى بين الأزرق والأحمر والأصفر والأخضر.زربية برسومات متقنة ومتداخلة
تتفنن النساء المتخصصات في صنع الزرابي الرباطية أو المعلمات في مزج الألوان واختيار الأشكال الهندسية ووضع المخططات التي تنفذها غالبا فتيات يعلمن على أيدي صانعات بارعات في ورشات تضم أكثر من عاملة.
وتشير الغندور إلى أن الزربية الرباطية تتميز بالصوف الكثيف، ويغلب عليها اللون الأحمر الذي يتخذ كأرضية لها بينما يزيّن الوسط والحافة برسومات دقيقة ومتداخلة.وتقول شامة، وهي معلمة للزرابي الرباطية منذ الستينات، إنها تختار دائما الألوان الداكنة لنسج جنبات الزربية، فيما يكون اللون المفضل المخصص للوسط، إما الأحمر أو الأزرق أو الأخضر.
ومن جهتها كشفت المعلمة للا زهرة، أن نسج الزربية الرباطية لم يعد مربحا بسبب غلاء الأيدي العاملة التي بدأت تفضل الاشتغال في المصانع الحديثة بدلا من المصانع التقليدية، وأيضا بسبب المنافسة الشرسة التي فرضها منتوج الزربية الحديثة التي يقل ثمنها عن الزربية التقليدية بشكل لافت للانتباه.
ويشار إلى أن لصنع الزربية الرباطية طقوسا عديدة، بدءا من تحضير الصوف كمادة أولية ورئيسة في المنتوج، مرورا بالنسج والفتل والتلوين، وهي تحضيرات غالبا ما تتم في أجواء بهحة وغناء إما في بيوت صانعات الزرابي اللواتي يستعن بفتيات متخصصات، وإما في محلات يتم تأجيرها لهذا الغرض.ولصناعة الزرابي الحرفية طقوس خاصة، فيوضع النول، وهو عبارة عن إطار حديدي حيث تنسج الزربية وعند الانتهاء من نسج القطعة التي تتطلب في الغالب أسابيع، تبادر المعلمة برش الزربية بالماء كدليل على الأمان.
لصنع الزربية الرباطية طقوس عديدة وتحضيرات غالبا ما تتم في أجواء من البهجة والغناء
وإلى جانب الزربية الرباطية هناك أيضا الزربية المراكشية والفاسية التي تتشابك فيها خيوط الطول والعرض، ويغلب على نقوشها الطابع الزخرفي الإسلامي، وتنسج من القطن الكثيف الناعم وتطعم بالخيوط المقصّبة والذهبية، أما ألوانها فمتنوعة وزاهية.وتبدع القرويات وهن من الأمازيغيات في نسج أنواع مختلفة من الزربية المغربية، وتزيينها بزخرفة متنوعة من رسومات ونقوش وأشكال هندسية بسيطة مثل المعين والمثلث والمستطيل و المربعات.وعلى الرغم من براعة الحرفيين والعمال المهرة في حياكة أجود أنواع السجاد، فإن أنامل القرويات لا يضاهيها شيء في هذا المجال، فهن قد تعملن بخفة وأناة لينسجن أجمل أنواع السجاد الذي أصبح اليوم نادرا وباهظ الثمن.فبعد عودتهن من يوم عمل طويل في الحقول، لا تستكين النسوة في القرى للراحة، فما إن يفرغن من أشغال البيت حتى يهجعن إلى غرفهن، يغزلن الصوف وينسجن الزرابي، ويقضين في ذلك ساعات لا تنتهي في جو تتعالى فيه الأهازيج.وحين تجلس القروية أمام النول تسرّ له بكل ما يعتمل في صدرها، راسمة أحلامها ومعبرة بكل حرية عن ذائقتها الفنية الخاصة، دون أن تتقيد بزخرفة محددة تزيّن بها الزربية التي تقضي في نسجها شهورا طوالا، فالنول يستحيل إلى ورقة بيضاء ترسم عليها أشكال الإبداع.لكل قبيلة زربية
الرباطية لا تغيب عن الدوائر الرسمية
مع أن لكل قبيلة أو قرية أمازيغية زربية خاصة بها تميزها عن غيرها من المناطق، فإن لكل امرأة لمستها الخاصة التي تجعل من الزربية لوحتها التشكيلية التي ترسمها بالصوف وتلونها بالحناء والزعفران وماء الورد.وقبل أن تنصرف القروية إلى عملية غزل الصوف ونسجه، تعمد إلى جمع الكميات التي تتوفر منه لدى قطيع ماشيتها، وغسله وتركه يجفف تحت أشعة الشمس التي تستعر في الصيف وتغادر سماء القربة شتاء بسبب المناخ الجاف للمنطقة.
وتفضل النساء أن يخللن الصوف بمادة محلية تدعى “الشبة” حتى يتشرّب أثناء صباغته المواد الملونة العشبية التي ستضاف إليه، لأن معيار جمال الزربية وحسنها يرتبط بالألوان المختلفة التي تصطبغ بها، وتبرع المرأة في مزجها طبقا لإحساسها بانسجام الرموز والألوان ودلالاتها في موروث القبيلة والمنطقة.وتعد عملية تلوين الصوف إحدى أهم مراحل التحضير لصناعة الزربية، فتستعمل الحناء والزعفران وأوراق شجرة الكاليبتوس وأعشاب برية وطبيعية أخرى لتلوين الصوف، الذي يعود ليجفف بعد صباغته، ويغزل بعناية وتبرم خيوطه، قبل أن توضع على النول إيذانا بانطلاق عملية صناعة الزربية التي تحتاج لأسابيع من العمل الدؤوب حتى تكتمل زينتها.
وتتحلق نسوة العائلة في شكل جماعات حول النول، يتبادلن أطراف الحديث، وتروي الأكثر خبرة بينهن وقائع وحوادث حصلت في القرية، فيما تبوح التي زحفت بها سنوات العمر إلى أعتاب الشيوخة بأحاجي الماضي وتسرد روايات متخيلة قديمة، فيصير غزل الصوف ونسجه بمثابة حلقة لقاء بين صغيرات السن والعجائز يتعلمن منهن فن الزربية وخبرات الحياة.وتقول الخالة فاطمة (63 سنة) التي قضت قرابة الأربعين سنة في مزاولة حرفة نسيج الزربية بالاعتماد على مواد أولية محلية طبيعية كالصوف المحلي وبعض الملونات الطبيعية، إن “هذه الحرفة ورثتها عن جدتها وأمها منذ أن كانت تبلغ من العمر تسع سنوات”.
وتضيف، أنه بالرغم من أن قطاع الزرابي يعد حيويا في القرى الأمازيغية إلا أنه يتخبط في مشاكل عديدة، خاصة في ما يخص التسويق، إذ بدأ بريقه يتراجع بشكل ملحوظ منذ الثمانينات نتيجة تراجع الطلب على المنتوج والتوجه نحو استهلاك الزرابي الآلية.
ويرتبط نسج الزربية لدى النساء الأمازيغيات بمواعيد خاصة، يحرصن خلالها على أن لا يتكاسلن في إتمام لوحتهن الصوفية برموزها الأمازيغية القديمة، وفي مواقيت أخرى ينكسن مناسجهن ويتوقفن عن عزل الصوف أو صباغته مخافة أن يطالهن شر أو جائحة، فنسوة بعض القبائل ينفرن من النسيج أيام الاثنين والخميس، وهو ما يعيده البعض للخصوصية الدينية لهذين اليومين.
فيما تقول روايات أخرى إن هناك بعض التواريخ التي ارتبطت لدى قبائل أخرى بأيام حروب ومجاعات ومآس تركت في ذاكرتها الجماعية ندوبا وجروحا عميقة تدفع الأهالي للتطيّر من إعلان فرحهم والتعبير عن نشاطهم خلالها. ويقول احميد الأجراوي صاحب أحد المحلات التجارية لبيع الزرابي، إنه “بعد إنهاء النسوة نسج الزرابي، يتكلف الرجال بتسويق منتجاتهن وبيعها في الأسواق، حيث يقام بالقرية أسبوعيا سوق خاص بالزربية تتقاطر عليه منتوجات مختلف القبائل المجاورة، ويتوافد إليه الباعة والمهتمون بهذا التراث المحلي من مختلف المدن القريبة”.
ويضيف احميد أن أجود أنواع الزرابي الأمازيغية هي الزربية الواوزيكيتية نسبة إلى منطقة جغرافية تضم عددا من القبائل في الجنوب المغرب تمتد من منطقة زكيت إلى منطقة تلوات، كما تعد نساء جبل سروة إحدى أحدق صانعات الزرابي، ذات الجودة العالية، كما هو حال الزرابي القادمة من قبيلة إيناكن الأمازيغية ومناطق أخرى.
ورغم الطابع التاريخي الذي يطغى على صناعة الزرابي التي تمثل جزءا من هوية القبائل الأمازيغية، إلا أن هذه الصناعة قديمة الجذور ما لبثت أن جدّدت نفسها وسارعت لمواكبة التغيرات المتلاحقة الطارئة على القرى والأرياف الأمازيغية خلال السنوات الماضية، لتفك عنها عزلة عاشتها لمئات السنين ومكنتها من الانفتاح على عوالم جديدة، وسمحت للنسوة بأن يبدعن زرابي تتجاوز زينتها تكرار رموز القبيلة وماضيها القديم، بل إن تحولات الحداثة الزاحفة على هذه المناطق تسللت إلى خلوة المرأة صانعة الزربية وأضحت توحي لها بأنماط جديدة لصناعة الزربية دون أن تفرّط في أصالتها.
مملكتنا.م.ش.س/العرب اللندنية
Advertisement
اشترك الآن في النشرة البريدية لجريدة مملكتنا، لتصلك آخر الأخبار يوميا
مقالات ذات صلة
الثلاثاء 19 مارس 2024 - 10:04
باريس .. السيد اليزمي يؤكد على “الدور متعدد الأوجه” للجاليات المغربية بالخارج
الجمعة 15 مارس 2024 - 21:56
الأجواء الرمضانية تضفي الحيوية والنشاط على أزقة المدينة العتيقة بفاس
الأربعاء 13 مارس 2024 - 10:35
أهالي طنجة متمسكون بشدة بتقاليد الأجداد خلال شهر رمضان
الثلاثاء 30 يناير 2024 - 14:19
الحاجيات المتزايدة للمنظومة الصحية تستدعي وضع نظام حكامة يضمن التنسيق بين الأطراف المتدخلة في التكوين (مجلس)