بطرس غالي حكيم أفــــــــــريقي قدم نفسه كملاك للســــــــــلام العالمي
السياسي المصري الراحل يعد كتابا مفتوحا للجميع وشخصا ذكيا له صبغة إنسانية واضحة، وموسوعيا في ثقافته، اعتاد العناد والتحدي في غالبية مواقفه لبلوغ أهدافه.
قد يكون البحث عن خليفة بطرس بطرس غالي في الفكر الدبلوماسي، عربيا وأفريقيا ودوليا، مسألة صعبة، كما أن البيئة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي ترعرع وسطها لم تعد موجودة.
البيئة التي نشأ فيها بطرس غالي الأمين العام السادس للأمم المتحدة، والذي رحل عن عالمنا الثلاثاء 16-2-2016 عن عمر ناهز الـ94 عاما، تنتمي لواحدة من أعرق العائلات القبطية في مصر، التي شغل عدد كبير من أفرادها مناصب مرموقة.
يبدو بطرس غالي كتابًا مفتوحًا للجميع، فقد كان شخصا ذكيا له صبغة إنسانية واضحة، وموسوعيا في ثقافته، اعتاد العناد والتحدي في غالبية مواقفه لبلوغ أهدافه السياسية.
لم يكن التحدي الذي انتهجه على مدار مسيرته الدبلوماسية والفكرية الطويلة لينجح لو لم يكن يتمتع بقدر وافٍ من الانفتاح والمصارحة، وقبول التعايش مع الآخر.
عاش مؤمنًا بمبدأ التواصل مع جميع الرؤى والأفكار والثقافات، شريطة أن تكون هادفة وبعيدة عن محاولات التفرقة والانقسام وفرض الوصايا، ودرج على عدم الدخول في نقاشات مستمرة حتى لو كلفه ذلك الجلوس في مشاورات تستغرق العشرات من الساعات.
مهندس مفاوضات الســـــــــــــــــلام
كان بطرس غالي شخصية أساسية في محادثات السلام بين مصر وإسرائيل بعد بضع سنوات من انتهاء حرب أكتوبر 1973. حيث كان حينها يشغل منصب وزير دولة للشؤون الخارجية من 1977 وحتى العام 1991، ثم نائبا لرئيس الوزراء للشؤون الخارجية.
عرف بعناده الشديد، وإصراره على أن تخرج مصر منتصرة، عندما بدأ الحديث يتواتر حول زيارة الرئيس المصري للكنيست الإسرائيلي. وبسبب تصميمه دخل ذات مرة في مناقشة سياسية ساخنة مع مسؤولين في تل أبيب امتدت نحو 40 ساعة متواصلة، لأنه وعد الرئيس المصري الراحل أنور السادات أن يرجع إليه بعد أن يقنع إسرائيل برؤية مصر للتسوية السياسية المطلوبة.
على النقيض من العناد في فرض رأيه، لم يمانع في الاهتمام بالرأي الآخر، لإيمانه الشديد بفكرة الاطّلاع على آراء الأعداء مهما كانت مناقضة لموقفه. وكان يدرك أنه من خلال المناقشة سيستطيع أن يجد حلولًا لمشكلات عصيّة على الحل.
في ذات الوقت، كان بطرس غالي دبلوماسيًا من طراز فريد. يدقق في أفكاره للوصول إلى الطريقة المثالية لتتمدد بلاده في محيطها الجغرافي، وبرز اهتمامه الكبير بالقارة الأفريقية، التي قطع نحوها مئات الآلاف من الكيلومترات، ذهابا وإيابا، ليحفظ لبلاده الدور والمكانة.
هذا الاتجاه كشف عن وجه مرن لبطرس غالي لم يعتده كثيرون. حيث اضطر كثيرا للتخلي عن عناده المعهود والارتكان إلى الليونة التي ساهمت في تطوير علاقات بلاده مع القارة السمراء، وجعلت مصر في قلب وعقل أفريقيا، كما أصبحت دول كثيرة في القارة تتمتع بمكانة كبيرة لدى القاهرة.
علاقاته الأفريقية ممتدة، فعندما وجد أن أزمة الدول الأفريقية التي ناضلت من أجل الحرية، تكمن في نقص السلاح، أقنع القيادة السياسية في بلاده أن مساعدة مصر لبلدان أفريقيا أقرب وسيلة لمزيد من التقرب منها، وبناء علاقات قوية معها.
بالفعل نجحت فكرة بطرس غالي، وكانت مصر تجلب السلاح من دول مختلفة، وترسل جزءا منه لبعض الدول الصديقة لها التي ناضلت للحصول على حريتها، على غرار الجزائر والمغرب وزامبيا وموزمبيق وجنوب أفريقيا.
بحسه السياسي أدرك مبكرا أن الكثير من دول أفريقيا سوف تتعرض يومًا ما لنقص مائي حاد، على الرغم من وجود نهر النيل العريق، وقد يصل ثمن لتر المياه إلى أغلى من لتر النفط.
أقنع الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك بجدوى بناء علاقات صداقة مع جميع زعماء دول حوض النيل، لإيمانه بأن مستقبل مصر يرتبط بعلاقات وثيقة معهم، وتعامل مع هذا الملف بحكمة شديدة، ونظرة مستقبلية تملأها المخاطر على حصة مصر من مياه النيل، وإصرار على تطوير العلاقات مع السودان بشكل خاص.
بطـــــرس غالي دبلوماسي من طراز فريد مكانة وتاريخ أسرته في عالم العلاقات الدولية فتحا أمامه الآفاق فكثير من القضايا الأفريقية والعربية تم حلها على يد جده بطرس غالي أو على يد ميريت غــــــــــــــــــــالي
كان يوحي للجميع بأنه يعمل لأجل صالح أفريقيا وليس لصالح مصر فقط، حتى أطلق عليه لقب “حكيم أفريقيا” الذي ينأى بها من الدخول في صراعات.
كان بلوغه منصب الأمين العام للأمم المتحدة بين عامي 1992 و1996، كأول عربي وأفريقي يشغل المنصب، بمثابة خسارة كبيرة للدور المصري في القارة السمراء، بعدما فشل من جاؤوا لخلافته في منصبه كوزير دولة للشؤون الأفريقية، في القيام بدور بطرس غالي.
بعدها بدأت سلسلة كبيرة من التراجعات المصرية في القارة السمراء، أرخت بظلال سلبية على مصالح مصر في أفريقيا، والتي نجح بطرس غالي في الحفاظ عليها فترة طويلة.
حتى وهو على مقعد الأمين العام للأمم المتحدة، لم ينس بطرس غالي انتماءه لأفريقيا، ولم تغب عن ذاكرته المعاناة التي تعيشها بعض بلدان القارة، لذلك أخذ على عاتقه مساندة الدول التي تشهد صراعات مسلحة، في التوصل إلى سلام دائم وشامل يضمن لها توفير الأمن والاستقرار، الأمر الذي ظهرت تجلياته في تدخلاته لإنهاء أزمات الصومال ورواندا وأنجولا.
لم ترق للسياسي المصري المخضرم، فكرة أن تستحوذ الولايات المتحدة الأميركية على إدارة شؤون العالم، وتتحكم في مصائر الدول من منطلق أنها قوة عظمى يمكنها الضغط على “الزر” لتغيير كل شيء، وهو ما دفعه إلى أن يتعامل معها بمبدأ “العين بالعين”.
دخل معها في تحدٍ، ذلك الطبع الذي يغلب على شخصيته، بعدما وجد أنها تساند إسرائيل في أمور لا تتعلق بالإنسانية، وموقفها من الاعتداءات المستمرة على قطاع غزة، لدرجة أنه شعر يومًا أن إسرائيل تعدّ ولاية أميركية جديدة.
رفض تهديدات أميــــــــركا
قناعات بطرس غالي، بأن الدبلوماسي الذي يقبل الإملاءات والتوجيهات التي تتناقض مع قناعاته للحفاظ على المنصب، يعتبر في مرتبة الخيانة العظمى. الأمر الذي جعله يدخل في صدام شديد مع واشنطن، بعد مساندتها للقصف الإسرائيلي على مركز قيادة فيجي في قرية قانا جنوب لبنان في أبريل عام 1996، والتي قتل فيها 280 شخصًا على الأقل، وهو ما فرض عليه فضح الممارسات والازدواجية الأميركية .
هذه القناعات كلّفته الرحيل عن منصبه، وعدم التجديد له في المنصب لولاية جديدة مثل غيره من غالبية الرؤساء السابقين واللاحقين، بعدما رفض تهديدات أميركا بعدم نشر التقارير المتعلقة بهذه المجزرة. لكنّه رد بأن التاريخ الإنساني والسياسي لن يرحمه إذا أخفى معلومات عن الجريمة الإسرائيلية بحق هؤلاء الضحايا، وأرسل بعثة عسكرية بها جنرال هولندي وآخر بلجيكي دون موافقة مسبقة من مجلس الأمن الدولي للتحقيق في المجزرة وكتابة تقرير. ما دفع واشنطن إلى استخدام حق الفيتو ضد التقرير في مجلس الأمن، بل واقتراح اسم شخصية جديدة تخلف بطرس غالي في منصب الأمين العام للأمم المتحدة.
غير أن موقف بطرس غالي من الدخول في عناد مع أميركا، في هذا التوقيت، لم يكن استثنائيًا بقدر ما يتعلق بمبادئ دبلوماسي دولي. قال عقب رحيله عن الأمم المتحدة إن الموقف لو تكرر مرة أخرى، سيفعل الشيء نفسه، وسيكتب ويعلن التقرير ذاته، مهما كان الثمن، “لأن المبادئ لا تتجزأ، والمناصب لا تخلد، والتاريخ لن يرحم، والإنسانية لن تذكر إلا المواقف المشرفة للرجال”.
صفات التحدي والعناد والمصارحة المطلقة لها علاقة بالتكوين الشخصي، وهي التي دفعت بالبعض إلى أن يطلقوا على بطرس غالي لقب “قديس السلام”، وهذه الصفة لم تكن مرتبطة بمناصب بعينها، لأنها كانت راسخة أيضا داخله. يستخدمها كلما حدث أمر أو واجه قضية لا تتفق مع مبادئه السياسية والاجتماعية، بعيدًا عن حجم الصراعات والسجالات التي درج على الدخول فيها.
|
لم يعد إلى مصر تاركًا صفاته في الغربة، لكنه بعدما ترأس المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر، انتقد الجهات الأمنية بشدة في ما يتعلق بحقوق الإنسان في بلاده، وخاض معارك ضارية مع الحكومة بخصوص هذا الملف حتى استقال من رئاسة المجلس في فبراير من العام 2011.
مع ذلك، كانت مواقفه تجاه الملف الأمني وتعامل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مع الإخوان، مختلفة. حيث عرف عنه دفاعه الشديد عن توجهات رئيس الدولة، خاصة ما يتعلق بالإجراءات الأمنية تجاه قيادات الجماعة، مبررا ذلك بأن “مصر في حالة حرب، ولا يمكن دمج الإخوان في السياسة، لأنهم سبب خراب مصر حاليا”.
لم يكفّ عن آرائه السياسية التي تحمل بين طيّاتها تحدي الواقع وعدم المحاباة لأيّ طرف. فقال قبل أربعة أشهر من رحيله، لمجلة “جون أفريك” الفرنسية، إن ثورتي 25 يناير و30 يونيو في مصر، لم تحققا الديمقراطية، لأنه لا توجد معارضة، وإن تشكيل حزب سياسي قويّ ليس اختراعا، ولا يمكن بناء ديمقراطية حقيقية وهناك 50 بالمئة من عدد السكان لا يستطيعون القراءة أو الكتابة”.
عائلة سياسية عــــــــــــريقة
من الصعوبة الفصل ما بين شخصية بطرس غالي، وبين تاريخ العائلة “البطرسية” العريقة، التي تعتبر أول عائلة قبطية مصرية تحصل على الباشوية، ولعبت دورًا مهمًا في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمصر منذ أواخر القرن التاسع عشر، واتخذ كثيرون من نجاحها دليلا على التسامح في مصر.
في ظروف اقتصادية ميسورة وبيئة اجتماعية متحضرة وجذور سياسية عميقة نشأ بطرس غالي. فهو حفيد بطرس نيروز غالي رئيس وزراء مصر في أوائل القرن العشرين الذي قصّ شريط العمل السياسي للعائلة. ثم توارث الأولاد والأحفاد الاتجاه من الاهتمام بالسياسة وتقلد الوظائف المرموقة بالدولة. وتعدّ أسرة غالي إحدى الأسر المعدودة التي ظلت تمارس السياسة حتى بعد ثورة يوليو 1952 بحكم تدرجها الوظيفي في مفاصل العمل في الدولة.
ما ساعد بطرس غالي كثيرًا في أن يكون مميزًا بين أبناء جيله، تلك الوحدة التي تميزت بها عائلته. وكونها ممتدة تاريخيًا دون انقطاع. وشبكة العلاقات الدولية والإقليمية لهذه العائلة، كدور ميريت غالي في أفريقيا وتحديدًا أثيوبيا، بعدما ورث ذلك عن الجد بطرس غالي ودوره في المحافل الدولية. كما في ملف السودان ومشكلة الحدود الغربية في العام 1904 والحدود الشرقية عام 1906 ودوره في الحدود الأثيوبية السودانية.
التواصل مع بعض الدول الأفريقية، وبناء علاقات فريدة من نوعها معها، نهج قديم سار عليه بطرس غالي، فإلى جانب الجد، كان له تأثيرات وروافد سياسية وإنسانية وثقافية وأفريقية، من خلال الدور الذي لعبه ميريت في مساعدة الشعب الأثيوبي، وعلاقته القوية مع الجالية القبطية في الحبشة، ودوره في تضييق هوة الخلاف بين الكنيسة القبطية والكنيسة الأثيوبية.
وكان نجيب بطرس غالي، وزير الخارجية المصري قبل ثورة 1919، صاحب دور وطني بارز خلال الحرب العالمية الأولى، عندما رفض تسليم لاجئي طرابلس المقاومين للحكومة الإيطالية في ليبيا. وقام بالدور الأبرز في مفاوضات اتفاقية عام 1936 بين مصر وبريطانيا، ومطالبته بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني في أول دخول له إلى عصبة الأمم عام 1937.
كل هذا التاريخ السياسي للعائلة، على المستوى المصري والأفريقي والدولي، جعل من بطرس غالي، الذي نال عضوية البرلمان المصري أيضا في العام 1987، شخصية متشبّعة بالخبرات، مكنته من أن يكون دبلوماسيا من طراز فريد.
مثّل رحيل بطرس غالي سؤالاً مفتوحاً أمام مصير أحلامه الأربعة، التي طالما سعى إلى تحقيقها وهو على قيد الحياة، وتكشف بشكل حقيقي، كيف كان شخصية عنيدة في الأفكار والتصورات والتصرفات، فهو الذي سعى مرارًا لتحقيق حلم إنشاء الولايات المتحدة الأفريقية، باستغلال التلاصق الجغرافي بين الدول، وهو الذي حلم بأن تحيا الجامعة العربية بعد وفاتها، بأن تتحرر من هيمنة الدول.
وأن يتم ضخ الدماء في عروق الأمم المتحدة، كمنظمة لها مواقف جادة لا تتجزأ، تخدم كل الدول ولا تخضع لهيمنة الولايات المتحدة، والحلم الرابع أن تستجيب مصر للعولمة في جميع المجالات.
مملكتنا.م.ش.س/عرب