مدفــــع رمضــــان يبهج الصغار والكبار أينما دوى
- مدفع الإفطار في شهر رمضان ينتظره الصغار والكبار، فمع أذان المغرب تطرب لصوته آذان الصائمين، لأنه الإشارة الحاسمة إلى إعلان موعد فك الصيام، ويرقص له الأطفال لأنه موعد أكل أشهى الطعام. ويعتبر من أهم العادات الرمضانية وله قيمة تاريخية عند العرب من المحيط إلى الخليج منذ قرون عديدة، لكنه في السنوات الأخيرة يجاهد من أجل البقاء بعد أن بدأت بعض الدول والمدن تتخلى عنه لأسباب مختلفة.
مدفع رمضان هو عبارة عن ماسورة من الصلب ترتكز على قاعدة من حديد، يستخدم للإعلان عن موعد الإفطار وإخبار عموم الصائمين عن فك الصيام، وهو تقليد انتشر في كل الدول العربية، لكن يبدو أن الحياة العصرية بدأت تقضي على هذه العادة التي درج عليها الصائمون منذ مئات السنين، فعوّض المدفع بأذان المصادح والتلفزيون، لكنه مازال يحقق انتصارا جديدا على “الحداثة” في الإمارات العربية ومملكة البحرين، بكل ما تحمل الكلمة من معان.
لقد عرف الإماراتيون تقليد مدفع الإفطار، في بداية الثلاثينات من القرن الماضي، وكانوا يسمونه بـ”الراوية” لارتباطه بشرب الماء، واستمر هذا التقليد حتى اليوم.
وكان أول مدفع في إمارة الشارقة، حيث تصاحبه الآن فعاليات مرتبطة به في بث مباشر عبر شاشة الشارقة، ويجتمع عدد كبير من المشاركين في تظاهرة مجتمعية، تنقل صورهم مباشرة إلى أهاليهم وذويهم، فيتحول التقليد إلى احتفالية بمشاركة الجميع.
ورغم التطور العمراني الذي تشهده إمارة دبي، والذي يحول دون سماع صوت دويّ مدفع رمضان بشكل واضح، تحرص الإمارة على إحياء تقليدها السنوي، الذي يزيد على 50 عاما، في تنبيه الصائمين بموعد الإفطار، وذلك من خلال أربعة مدافع تتوزع في مناطق مختلفة منها، معلنة تميز شهر الصيام الذي يختلف عن بقية أشهر السنة.
ويقول المسؤول في القيادة العامة لشرطة دبي، عادل حسن راشد “يعتبر إطلاق مدفع رمضان، تقليدا سنويا باشرت به القيادة العامة لشرطة دبي منذ زمن طويل، يعود إلى بداية الستينات من القرن الماضي، في محاولة منها قصد تنبيه الصائمين من المواطنين والمقيمين، لموعد الإفطار، ومشاركتهم فرحته، فضلا عن حرصها على إضفاء طابع مميز للشهر الفضيل على خلاف غيره من الشهور”.
وفي أبوظبي يعود تقليد مدفع رمضان ككل عام، حرصا من الإمارات على الحفاظ على العادات والتقاليد المتوارثة والتمسك بالموروث الاجتماعي الذي ترسخ في ذاكرة المجتمع، فالمدفع في الإمارات لم يقتصر على الدفاع عن المنطقة بل كان ولا يزال من مصادر الاحتفاء بالمناسبات الدينية والاجتماعية ووسيلة لإدخال البهجة والفرح على الجميع.
في مكــــــــة افتقد الأهالي المدفع بعد أن اعتادوا على سماع صوته طوال خمسين عاما خلت إيذانا للصائمين بالإفطــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــار
مدفــــع البحريـــــــــــــن
رؤية الجمهور للحظة انطلاق المدفع تعيدهم بالذاكرة إلى الأيام الماضية، حين كان الناس يتعرفون على حلول موعد الإفطار عبر سماعهم طلقات المدفع، ثم تصدح المساجد بأصوات المؤذنين لصلاة المغرب، وذلك قبل ظهور وسائل الإعلام والأجهزة الحديثة التي يسرت للجميع معرفة مواعيد الصلاة بسهولة ويسر.
ومازال المدفع يحتفظ بكونه أيقونة شهر الصيام لدى البحرينيين، ويجذب الكثيرين حوله مع قدوم الشهر الفضيل في كل عام، رغم ما عرفته الحياة من تغييرات على كافة المستويات، أدت إلى اندثار الكثير من العادات والتقاليد القديمة.
“ارمِ”، بهذه الصيحة تطلق قذيفة مدفعية صوتية من مدفع الإفطار في مملكة البحرين، منذ ثلاثينات القرن الماضي، وقبل أن يعلن عن اكتشاف النفط أو عن تأسيس المملكة. وعادة ما يقوم أفراد من الأمن بإطلاق القذيفة لحظة مغيب الشمس، لإعلان حلول موعد الإفطار.
ولم يقتصر دور المدفع على الإعلان عن موعد الإفطار، ولكنه يطلق قذيفته أيضا ليعلن عن موعد دخول شهر رمضان عند ثبوت الرؤية، وكذلك عند ثبوت رؤية هلال شوال معلنا عن حلول عيد الفطر السعيد، ويطلق أيضا قذائفه عند حلول عيد الأضحى، ويكون عدد قذائف العيدين 12 قذيفة، لكل منهما.
ففي وقت الغروب وقرب موعد أذان المغرب، يتجمع العشرات من المواطنين والمقيمين برفقة ذويهم لمشاهدة مدفع الإفطار، وهو يطلق قذيفته.
ولا يذكر عام محدد يمكن القول إن مدفع الإفطار ظهر فيه بالبحرين، غير أن البعض من المصادر تقول إنه يعود إلى ما قبل عصر النفط، في ثلاثينات القرن الماضي، وتستمر هذه العادة القديمة إلى هذا اليوم.
وتوكل مهمة الإشراف على مدفع الإفطار والإمساك وضبط التوقيت لأحد شيوخ الدين الذين يحددون موعد غروب الشمس وفق توقيت الساعة، مقارنة بغروب الشمس الفعلي. وتتعدد أماكن إطلاق مدفع الإفطار في البحرين، حيث يتواجد حاليا في مختلف المحافظات.
الإماراتيـــــــــــــــــون عرفوا تقليد مدفع الإفطار، في بداية الثلاثينات من القرن الماضي، وكانوا يسمونه بـ”الراوية” لارتباطه بشرب الماء، واستمر هذا التقليد حتى اليــــــــــــــــــــــــــوم
وتشير البعض من المصادر إلى أن شمال المنامة، كان الموقع المخصص لمدفع الإفطار في العاصمة قديما، ومن ثم انتقل إلى الأرض المقابلة لسوق المنامة المركزي بعد ردم جزء من البحر لإنشاء السوق، وبقي مكان المدفع في هذا الموضع من المنامة لعدة عقود.
تختلف الروايات عن تاريخ انطلاق مدفع الإفطار، لكنها تتفق كلها على أن الصدفة كانت وراء انطلاق هذه العادة في القاهرة.
وتقول إحدى الروايات، إنه عند غروب شمس اليوم الأول من رمضان عام 1444م، أراد خوش قدم والي مصر في العصر الإخشيدي أن يجرب مدفعا جديدا في وقت الغروب، وظن الناس أن السلطان تعمد إطلاق المدفع لتنبيه الصائمين إلى أن موعد الإفطار قد حان، فخرجت جموع الأهالي إلى مقر الحكم، لتشكر السلطان على هذه البدعة الحسنة التي استحدثها، وعندما رأى السلطان سرورهم، قرر المضي في إطلاق المدفع كل يوم إيذانا بالإفطار، ثم أضاف بعد ذلك مدفعي السحور والإمساك.
رواية أخرى تقول، إن انطلاق مدفع الإفطار كان فى عهد محمد علي باشا، وجاء بمحض الصدفة، حيث كان محمد علي مهتمّا بتحديث الجيش المصري وبنائه بشكل قوي، وأثناء تجربة قائد الجيش لأحد المدافع المستوردة من ألمانيا، انطلقت قذيفة المدفع مصادفة وقت أذان المغرب في شهر رمضان، وكان ذلك سببا في إسعاد الناس الذين اعتبروا ذلك أحد المظاهر المهمة للاحتفاء والاحتفال بهذا الشهر المبارك، وتمّ استخدام المدفع بعد ذلك في التنبيه لوقتي الإفطار والسحور.
وتطورت وظيفة المدفع فكان أداة للإعلان عن رؤية هلال رمضان، فبعد ثبوت الرؤية تنطلق المدافع من القلعة ابتهاجا بشهر الصوم علاوة على إطلاقه 21 طلقة طوال أيام العيد الثلاثة.
ومن مصر إلى الدول العربية بدأت الفكرة تنتشر في أقطار الشام أولا، القدس ودمشق ومدن الشام الأخرى، ثم إلى بغداد في أواخر القرن التاسع عشر، وانتقلت إلى الخليج قبل بزوغ عصر النفط، وكذلك اليمن والسودان وحتى دول شمال وغرب أفريقيا.
|
غيــــــــــــاب المدفـــــــــــــــع
يبدو أن هذه العادة التي ينتظرها الجميع بدأت تندثر بعد أن قضى تسارع الحياة العصرية على معظم طقوس رمضان القديمة، إضافة إلى عدة عوامل أخرى، أبرزها انتشار الإرهاب في عدة دول مثل تونس وليبيا وسوريا والعراق واليمن التي تخلصت أغلب مدنها إن لم تكن كلها من عادة إطلاق مدفع البارود إعلانا عن رؤية هلال رمضان وموعد المغرب طيلة هذا الشهر.
وفي تونس بدأت الظاهرة تختفي منذ حادثة صفاقس إثر انفجار مدفع رمضان وتسببه في وفاة مهندس وجرح جنديين تونسيين خلال رمضان 2010، وانقطعت هذه العادة التي كان يتجمّع حولها البعض من الأولياء بصحبة أبنائهم لحضور عمليّة إطلاق المدفع.
وازداد انتشار غياب المدفع عن المدن التونسية بازدياد ظاهرة الإرهاب التي رفعت من مخاوف السلطات من استغلالها لإحداث تفجيرات، وحضر المدفع في القيروان وغاب عن بقية المحافظات ومدينة تونس العاصمة منذ السنة الماضية.
يذكر أن وزارة الداخلية التونسية قد اتخذت قرارا بمنع استعمال المدفع أثناء الإفطار خلال شهر رمضان منذ سنة 2014، ليشمل جميع محافظات التونسية وقد اتخذته السلطات المعنية نتيجة الظروف الأمنية الخاصة التي تعيشها تونس، ثم تراجعت معلنة أنه بإمكان أي مدينة بها مدفع استعماله خلال شهر رمضان.
المدفـــــــــــــــع يحتفظ بكونه أيقونة شهر الصيام لدى البحرينيين، ويجذب الكثيرين حوله مع قدوم الشهر الفضيل، رغم ما عرفته الحياة من تغييــــــــــــــــــرات
عادات اندثرت وأخرى في الطريق وقد لا يبقى من رمضان بأجوائه التقليدية غير واجب الصيام، ففي العراق وسوريا واليمن يختلط صوت مدفع رمضان بأصوات الانفجارات ومدافع الهاون حتى أصبح الصائم لا يفرق بينهما، رغم تعلق المواطنين بهذه العادة التي ارتبطت بموعد الإفطار في رمضان.
وقالت أمانة بغداد في بيان لها إن “المدينة قامت بنصب أشكال ومجسمات ضوئية مبتكرة لمدفع الإفطار ومبخرة رمضان ودلال القهوة والنشرات الضوئية متعددة الألوان ابتهاجا بحلول الشهر الفضيل وما يمثله من مكانة كبيرة في نفوس الأسر البغدادية بهدف خلق أجواء رمضانية متميزة في العاصمة”، ما يعني ان المدفع سيغيب عن هذا الشهر.
وفي وقت سابق استعاضت بغداد عن مدفع رمضان ببث تسجيل لإطلاق قذيفة من مدفع على شاشة التلفاز. وليس ثمة علاقة لاختفائه بأي توجه ديني ولكن بدأت تختفي ملامحه مع مستجدات العصر والظروف الأمنية.
ويقول أبوصالح “كنت أشاهد عددا كبيرا من العوائل البغدادية وهي تحضر الطعام والشراب لطاقم المدفع وقت الإفطار اعتزازا بدورهم في إشعار الصائم ببدء الإفطار”.
ولم يسمع أبو صالح صوت المدفع مبديا استغرابه من إلغاء فكرة المدفع أو تناسيها هذا العام، فيما بدا كأنه جهل بالقيمة التاريخية لهذه العادة التي صارت سمة رمضان المميزة في كل البلدان العربية.
وفي اليمن كما في سوريا يتمنى الصائمون أن يسمعوا صوت مدفع رمضان بعد أن أنهكتهم الحرب التي تحرمهم من حياة هادئة في الأجواء الرمضانية.
|
ففي دمشق تحرص السلطات على الاستمرار في إطلاق مدفع رمضان لطمأنة السكان بحالة الهدوء غير الموجودة في الحقيقة. أحد المعلقين على موقع التواصل الاجتماعي قال إن السنة الماضية وإثر إطلاق المدفع لباروده عند حلول أذان المغرب، ردت عليه قذائف عديدة لا يعرف مأتاها إن كانت نظامية أم معارضة.
الحادثة سواء كانت واقعية أم على سبيل السخرية، فإنها تعبر عن حالة الفوضى التي يعيشها السوريون في شهر التسامح والتآزر والتآخي.
الحداثــــــة تغلب التقاليـــــــــــــــــد
دول أخرى غابت عنها عادة المدفع الرمضاني بفعل الحداثة، ففي سلطنة عمان اندثرت عادة إطلاق مدفع رمضان، وبقيت آثاره ومجسماته وأعداد منه تشاهد في المتاحف والمناطق السياحية والعامة.
وفي مكة افتقد الأهالي المدفع بعد أن اعتادوا على سماع صوته طوال خمسين عاما خلت إيذانا للصائمين بالإفطار، وبعد أن تعلق الكبار والصغار منهم بذلك الصوت الذي ظهر قبل المكبرات الصوتية، لدرجة أن الكثير من الصائمين يمتنعون عن الإفطار حتى سماع صوت المدفع الذي يرتبط ظهوره بهلال الشهر.
وكان المدفع في مكةيحضر قبل أيام من شهر الصيام، فيتم غسله وتشحيمه وتهيئته للانطلاق، ويسحب بمركبات إلى أعلى الجبل، وعند إعلان أولى ليالي رمضان يطلق سبع طلقات، وطلقة عند الإفطار، وأخرى بمنتصف الليل، وطلقتين وقت الإمساك، ويختم آخر طلقاته بإعلان العيد بسبع طلقات، ليعود إلى الصمت من جديد، لمدة أحد عشر شهرا.
وناشد عدد من أهالي مكة من يملك إعادة هذا الصوت والتراث لهم إلى مكة، والذي انقطع بها، على حد قولهم، مشيرين إلى أن “مدفع رمضان” لا يزال ملتحفا بالصمت في موقعه .
مملكتنا.م.ش.س/عرب