محمود هرواك
إذا كان أحمد الدليمي قد بنى “لادجيد” بالحجر الأول، والبصري قد وسّعها بأسلوب القبضة، فإن محمد ياسين المنصوري هو من نقَّاها من الضجيج، وهذَّب ملامحها، وكساها بثوب الذكاء الرقميّ، وأزياء الأناقة الخفية، والأفق الاستراتيجي المتّزن.
📜 البداية مثيرة عظيمة: من الصحافة إلى الاستخبارات.. مسار غير تقليدي!
وُلِدَ المنصوري سنة 1962، تخرّج من المدرسة المولوية، حيث درس إلى جانب الملك محمد السادس. حمل شهادة في الحقوق، ثم اشتغل مديرًا لوكالة المغرب العربي للأنباء، قبل أن تُسند إليه سنة 2005 قيادة أكثر الأجهزة حساسية في الدولة: لادجيد.
حينها.. كان القرار صادمًا لكثيرين… كيف يُعهد بجهاز استخباراتي لرجل لم يأتِ من المؤسسة العسكرية ولا من دهاليز الأمن!؟ (واه كيف دار ليها!؟) لكنّ من يعرف مزاج الملك محمد السادس، يعرف أن اختيار محمد ياسين المنصوري لم يكن مفاجئًا… بل دقيقًا مثلما دِقة عملية جراحية.
🧬 التغيير البنيوي: من “جهاز سري” إلى “مؤسسة استراتيجية”
ما إن وطأت قدماه دهاليز لادجيد، حتى شرع في إعادة هيكلتها من الداخل، بهدوء حذر، يشبه حركة رقعة شطرنج! فكان أن أنشأ غرف تحليل متقدمة تعتمد على الذكاء الاصطناعي والبيانات الكبرى في وقت يجهل العالم هذه الإكتشافات.. ومن ثم أدخل التكوين الأكاديمي واللغوي لكثير من عناصر الجهاز، معتبرًا ومنبها إلى أن الحرب الحديثة تُخاض بالمعلومة لا بالمطرقة! لم يتأخر كثيرا حتى قاد مشروعًا طموحا ورائدا لتجهيز الجهاز بتقنيات مراقبة فضائية وأقمار صناعية.
المنصوري حوّل الجهاز إلى مؤسسة “عابرة للوظائف”، تتقاطع فيها الجغرافيا مع الاقتصاد بمعية الثقافة رفقة الفنون مرورا بالرياضة وصولا للصحافة والإعلام بلوغا الاستخبارات…
لقد فهم المنصوري وما الفهم السليم إلا له؛ وبشهادة التاريخ؛ أن زمن العملاء التقليديين انتهى، وأن الاستخبارات في العصر الرقمي تتطلب رجلًا يفكّك الشيفرات كما يقرأ شاعرٌ القصائد… بدقة وشغف بليغ..
🔍 ملفات النار: الإرهاب، الساحل، والتنسيق الدولي
عهد المنصوري كان مشتعلاً منذ لحظته الأولى، لأنه تزامن مع أحداث شتى نذكر منها:
تصاعد التهديدات الإرهابية في منطقة الساحل والصحراء، نشاط تنظيم “القاعدة في المغرب الإسلامي”، وتحوّل شبكات الهجرة والتهريب إلى بوابات لتسلل العنف.
لكن لادجيد ـ تحت قيادته ـ لم تتعامل مع هذه التهديدات بـ”رد الفعل”، بل بـ”إدارة الظل”:
فنسج علاقات متينة مع أجهزة كبرى (CIA، DGSE الفرنسية، MI6 البريطانية، BND الألمانية).
تبادل معلومات في ملفات حساسة أنقذت دولًا من هجمات إرهابية، كما حدث في فرنسا وبلجيكا وإسبانيا…
وكان أن قام بعلو الكعب والتمكن من عمليات مشتركة سرية بصمت، يُحكى أن بعضها تمّ عبر فرق مغربية خاصة تعمل تحت غطاء دبلوماسي.
لقد أصبحت لادجيد فاعلًا لا يُستغنى عنه في خريطة الأمن العالمي…
وأصبح معها الصحافي المخابراتي المنصوري، يمضي تقاريره بمداد من هدوء، لكنّها تهزّ مكاتب القرار من واشنطن إلى روما! وكان له ولا يزال في ذلك فلسفة لكل مرحلة.. ولعل فلسفته اليوم كما يلقنها لرجاله وكما استرقتها من بعضهم مباشرة هي الآتية؛
🎯 فلسفة المرحلة الحالية:
“أن تعرف أكثر مما تقول، وأن تفعل أكثر مما تُعلِن، وأن تكسب الحرب دون أن تطلق رصاصة واحدة.”
تحت هذا النهج، ومن مصادر جد خاصة؛ أجزم لكم أن الوصفة كانت سحرية للغاية لدرجة تحوّلت معها لادجيد إلى مؤسسة تشتغل بحس الصياد القناص على ما قبل وبعد الحروب! وفي ذلك: تحليل التحولات الجيوسياسية، دعم القرار الاستراتيجي الملكي، واستباق التحولات داخل إفريقيا جنوب الصحراء، وشرق البحر المتوسط.
🧩 أما ياسين المنصوري اليوم:
فلا يظهر في الإعلام، لا يُدلي بتصريحات، لا تُلتقط له صور عبثًا… لكنّه يوقّع على تقارير قد تغيّر مسار بلد بأكمله، أو تُجنّب عاصمةً الخراب.
🧠🕶️ عبقرية المنصوري.. وعباءة العملاء التي لا تُخلع!
في عالم الأجهزة المخابراتية، لا تُقاس القيمة بعدد البنادق، ولا تُقاس السيادة بعدد الطائرات، بل تُقاس بقدرة العقل على التوغّل دون أن يُرى، وعلى التأثير دون أن يُذكر. وفي هذا المضمار، بزغ نجمنا بصمت…
رجلٌ لا يرفع صوته، لكنه يُسمَع في العواصم الكبرى. رجلٌ إن نظرت إلى ملامحه، حسبته أستاذًا جامعيًّا أو رجل فكر… لكنه في الواقع، مهندس الظلال، وعازف سنفونية المعلومة الصامتة.. إنه الصحافي محمد ياسين المنصوري.
🧬 عبقرية بلا ضجيج: كيف أعاد المنصوري تشكيل “العميل المغربي”؟
حين تولّى المنصوري رئاسة لادجيد سنة 2005، كانت صورة “العميل” لا تزال رهينة النمط التقليدي: رجل ذو نظارات سوداء، يتحدث الفرنسية بلزوجة، يتحرّك بخلفية عسكرية، ويُحمِّل جيوبه بوثائق.
لكنّ المنصوري لم يكن يؤمن بالصور الكليشيهية؛ ففي نظره، الاستخبارات الحقيقية هي فنّ الاندماج مع الناس والمجتمعات ومن ثم الانصهار في بيئتهم..
لذلك أطلق مشروعًا داخليًّا أشبه بثورة صامتة:
🔸 تكوين عملاء بملامح مدنية خالصة!
🔸 اعتماد الغطاء الأكاديمي والاقتصادي أكثر من الغطاء الدبلوماسي..
🔸 العمل على لغات جديدة حتى التي يجهلها العارفون: الماندراين، الهوسا، الفولانية، العبرية، التاميلية…
🔸 إدخال البرمجة والسلوكيات الرقمية ضمن التكوين الميداني..
لم يعُد بعد ذلك “العميل المغربي” ذاك الرجل الذي يتجسس على مُعارض…
بل أصبح:
🧠 محللًا للسلوك السياسي لنخب إفريقية ناشئة وأخرى عالمية ناضجة..
🧳 صاحب بطاقة في منتدى دوليّ ما!
📊 خبيرًا في تحولات الأسواق الناشئة..
أو ببساطة: طالبًا من نيجيريا يتلقى تعليمه في مراكش، لكنه لا يضيّع صلاة المعلومة لصالح لادجيد.
🎭 عباءة لا تُخلع: من هم “رجال لادجيد” فعلًا؟
في عالم الظلال، ليست البطولات في أن تَظهر، بل في أن تُخفي أثرَك حتى عن ظلك! وأفضل طريقة لذلك ليس الاختباء؛ بل الظهور الغير المريب..
رجال لادجيد ليسوا بالضرورة أولئك الذين يُمسكون باللاسلكي، أو من يرتدون بذلات داكنة اللون…
بل في حالات كثيرة:
*أستاذ جامعي مغربي يُدرّس في جامعة بالسنغال، لكنه يبعث بتقارير لا يقرأها إلا أربعة أشخاص في البلاد!
*رجل أعمال يُشارك في منتدى اقتصادي بفرانكفورت، ثم يعود وفي حوزته خريطة مصالح ألمانية في شمال إفريقيا!
امرأة تشتغل في هيئة دولية، تُتقن اللغة أكثر مما تُتقن الشك، وتعرف كيف تسأل دون أن يبدو سؤالها فخًا وقد تتريض رياضة المتعة؛ لمتعتها الأكبر؛ ألا وهي ولع التخابر!
هؤلاء إذن ليسوا عملاء بالمعنى البسيط… هؤلاء “نسّاجو المعلومة”، ورُسل الدولة في الزمن الذي لا مكان فيه للرسل الفرسان!
🧠 عقيدة لادجيد في عهد المنصوري:
“تغلغل، ولا تتصادم.”
“اخترق بنعومة، لا بضجيج عنيف.”
“استثمر في الزمن الطويل، لا في الربح التكتيكي السريع.”
في هذه العقيدة، يكون العميل أكثر شبهًا بـ”بذرة تُزرع في أرض بعيدة”، تُسقى بالمعلومات، وتُثمِر يومًا تقارير تُغيّر سياسة دولةٍ كاملة تجاه المغرب.
ولك عزيزي القارئ وعزيزتي هذا المثال الحصري…
💡مثال واقعي حصري: كيف أطاحت لادجيد بتحالف إفريقي ضد مصالح المغرب؟
في إحدى الحالات سنة 2016، كانت مجموعة من الدول الإفريقية تُحضّر لموقف معادٍ للمغرب في ملف الصحراء داخل منظمة إفريقية ناشئة.. لكن قبل أن يكتمل المشهد، تراجع بعض القادة فجأة، وتحوّلت التصريحات من صخب الحدّة إلى بشاشة الهدوء. لم يُفهم شيء… لكن من يعرف كيف تشتغل لادجيد، يعرف أن ثلاثة عملاء كانوا قد سبقوا الوفود بشهرين، وأن تقريرًا تحليليًّا رُفع إلى الملك عبر المنصوري، وأن اللقاءات الهامشية التي تمّت على هامش المؤتمر كانت كلّها مُهندسة سلفا.
هكذا تُخاض الحروب في القرن الجديد… لا بالمدافع، بل بـ”عبارات محسوبة، ونظرات مفهومة، وصمتٍ قاتل.” 🔐
🧭 المنصوري لا يبني جهازًا فقط… بل مدرسة مغربية للاستخبارات
اليوم، لا يمكن لأي خبير دولي في الأمن أن يتحدث عن شمال إفريقيا كما جنوبها، شرقها كما غربها دون أن يذكر “الموديل المغربي” في الاستخبارات الخارجية.
ومَن وضع حجر هذا النموذج العصري؟
هو ذلك الرجل الهادئ، الذي يبتسم في الصور القليلة المتاحة له، لكن في ذهنه تدور آلاف الملفات كأنها رقصة بيانات…
يتبع
مملكتنا.م.ش.س