محمود هرواك
هناك أسماء تمرّ كالنسيم، خفيفة، عابرة. وهناك أسماء تأتي مثل الشهاب، ترسم في السماء خطًّا من الضوء، وتترك أثرًا لا يمّحي. من هذه الفئة الأخيرة يسطع اسم كوثر الحفيظي، المغربية التي غادرت الرباط بحقيبة مراهقة حالمة لتصل إلى مختبرات العالم، وتضع المغرب على خارطة الفيزياء النووية الدولية..
في سماء العلم الرحبة، حيث تتناسل الأسئلة كنجوم لا تنطفئ، برز اسمٌ مغربيٌّ نسائيٌّ مضيء، يحمل بين حروفه شموخ الأطلس ووهج شمس الصحراء. إنّها كوثر الحفيظي، العالمة التي عبرت من أزقة الرباط إلى مختبرات أمريكا، لتجعل من الكواركات والغلوونات ــ تلك الجسيمات المتناهية في الصغر ــ حكاية كبرى عن طموحٍ لا يعرف حدودًا.
لم تكتفِ الحفيظي بأن تكون مجرّد عالمة فيزيائية؛ لقد صارت شاعرةً في معبد الذرّة، تُنصت إلى همسات البروتونات والنيوترونات كما ينصت المتصوّف إلى نداء الخفاء. في مسيرتها، انصهرت المعادلات بالخيال، وتحوّلت أجهزة التسريع النووي إلى نايٍ كونيٍّ يبوح بأسرار المادة الأولى.
من جامعة محمد الخامس بالرباط، حيث وضعت اللبنات الأولى لرحلتها، إلى جامعة باريس الجنوبية، حيث نالت الدكتوراه في الفيزياء النووية، ثم إلى مختبر أرغون الوطني بالولايات المتحدة، حيث صارت أول امرأة تُمسك بمفاتيح قسم الفيزياء هناك… تتجلّى الحكاية كأغنية انتصار تُروى للأجيال. إنّها ابنة المغرب التي كسرت حواجز الزمان والمكان، لترسم حضورًا عربيًّا وإفريقيًّا في أكثر الحقول العلمية دقّة ورهافة.
هي لا تدرس الذرّة وحسب، بل تفتّش في قلب الكون كما يفتّش الشاعر في قلبه: من أين جئنا؟ كيف يُمسك الوجود بخيوطه غير المرئية؟ لماذا يظل الكون مدهشًا رغم كل ما نكتشفه؟… أسئلتها ليست معادلات فقط، بل أدعيةٌ علميةٌ في محراب الحقيقة.
وفي كل إنجاز علميٍّ تنجزه، يتردّد صدى المغرب: وطنٌ يصدّر للعالم أبناءه البررة، لا في الأسواق فحسب، بل في أروقة المعرفة الكبرى. كوثر الحفيظي اليوم ليست مجرّد عالمة، إنّها جسرٌ بين الضفتين: بين الجذور والأفق، بين الحلم والبرهان، بين المغرب والعالم.
فإذا كان لكلّ أمةٍ أيقوناتها، فإن المغرب يحق له أن يفاخر بهذه الفيزيائية التي حولت الذرّة إلى قصة عشق، والمختبر إلى مسرح للدهشة، والعلم إلى قصيدة كتبتها امرأة مغربية على سبورة الكون.
الطفلة التي صارت عالمة
ولدت كوثر بين دفتي أسرة محافظة في العاصمة، حيث كان الحلم الكبير وقتها أن تصير المدرسة طبيبة أو مهندسة. لكنّ الطفلة الشغوفة بالنجوم، التي كانت تحدّق في السماء أكثر مما تحدّق في الأرض، كان لها قدر آخر. لم تكتفِ بالمعادلات التي يدرّسها الأساتذة؛ بل كانت تسأل أسئلة أكبر: “من أين جاء الكون؟”، “كيف تشتغل المادة؟”، “أيمكن للإبرة الصغيرة أن تخيط نسيج الوجود كله؟”.
من الرباط إلى باريس… ثم إلى أمريكا
حملت كوثر الحقيبة، وغادرت إلى باريس حيث حصلت على الدكتوراه في الفيزياء النووية. هناك، في مدرجات جامعة باريس الجنوبية، صارت الفتاة المغربية محور نقاش بين الأساتذة: “من تكون هذه الطالبة القادمة من ضفاف الأطلس؟”. وبعدها، كان القدر يفتح أمامها بوابة جديدة: الولايات المتحدة الأمريكية، وتحديدًا مختبر أرغون الوطني، واحد من أكبر المراكز البحثية في العالم.
المرأة التي كسرت السقف الزجاجي
في أرغون، بدأت كزميلة باحثة، ثم صعدت سلّم القيادة درجة بعد درجة، حتى صارت أوّل امرأة تُعيّن مديرة لقسم الفيزياء في تاريخ المختبر. لم يكن الأمر مجرّد منصب، بل كان حدثًا رمزيًّا: امرأة عربية، إفريقية، مغربية، تعتلي قمّة هرم علمي في بلدٍ يقيس الناس فيه النجوم بالمليمتر.
العلم كقصيدة
تقول كوثر الحفيظي في أحد حواراتها: “كنت كنحلم نعرف منّاش مصنوعة هاد الدنيا… كنت باغية نوصل لذرة الحقيقة”. هكذا تُلخّص مسارها: ليس العلم عندها معادلات فقط، بل قصيدة تُكتب بحبر النيوترونات، وموسيقى تُعزف بأوتار الكواركات. في نظرها، المختبر أشبه بمعبد، والتجربة العلمية صلاة من نوع آخر.
رمز الفخر الوطني
إن كوثر الحفيظي اليوم ليست فقط باحثة عالمية؛ بل رمز للفخر المغربي في ميادين العلم، نموذجًا يُحتذى به لكل فتاة مغربية تتطلع إلى النجوم، وبرهانًا حيًا أن الطموح والعلم يمكن أن يرفعا اسم الوطن إلى أرقى المراتب الدولية. كل إنجاز تقوم به يعكس صورة المغرب، ويعيد رسم معالمه في عيون العالم: وطن يولد أبطاله من صميم إرادته وإبداع شبابه.
كوثر… الأيقونة
اليوم، حين يُذكر اسم كوثر الحفيظي، لا يُذكر كعالمة فحسب، بل كرمز. رمز للفتاة التي غادرت الأزقة الضيقة للرباط لتلج كبرى المختبرات، رمز للمرأة التي كسرت السقف الزجاجي في أمريكا، رمز للعربية التي كتبت اسمها في أبجدية الذرّة.
إنّها ليست فقط باحثة؛ إنّها قصة انتصار مغربي مكتوبة بلغة العلم، وحكاية فتاة جعلت من الذرّة معشوقة ومن الكون كتابًا مفتوحًا. وكما يليق بالنجوم أن تُخلَّد، فإن اسم كوثر الحفيظي يظل نجمًا في سماء المغرب، يذكّرنا أنّ الطموح لا يعرف حدودًا، وأن المرأة المغربية حين تحلّق… فإنها ترفع اسم وطنها عاليًا بين الأمم.
مملكتنا.م.ش.س