بورتريه ل: عصام أباالحسان
chifaeabalhassane@gmail.com/0661905536
لا شيء يصدق لتوصيف ما عاشه إقليم الحوز ليلة الجمعة ثامن سبتمبر 2023 سوى ” الفاجعة “. كيف لا و قد ارتقى آلاف الشهداء و هوت دور و أبيدت دواوير عن بكرة أبيها، و كيف لا يصدق توصيف الفاجعة و الحال أنه بلمح الصبر يتم الأطفال و رملت النساء و أثكلت الأمهات.
المأساة لم تكن منتظرة أو متوقعة، قبلها بلحظات قليلة كان المغاربة غارقين في مآسي أخرى أبطالها نجوم الترند و الطوندونس الذين ملأوا الدنيا تفاهة و إسفافا فأثاروا زوبعة من الغضب الشعبي.
هناك بمنطقة ” إيغيل” و مع انقشاع غبار المنازل المهدمة و تسربل أولى خيوط الصباح ، كانت الشابة “مريم العيساوي” المعروفة لدى مرتادي الويب المغربي ب” ميمي طق طق” متواجدة في الصفوف الأمامية جنبا إلى جنب مع فرق الإغاثة و الإنقاذ، و سرعان ما أطلت على متتبعيها في منصة “تيك توك” بمقطع مصور لها وسط ركام البنايات المنهارة، تعتريها نوبة من البكاء الهستيري تأثرا بمصاب أهالي الحوز في تلك الليلة الكبيسة.
لم يستغرب العديد من المتتبعين تلك المشاعر العفوية الحزينة التي انتابت ” ميمي” خاصة أنهم يعرفون العلاقة الوطيدة والحميمة التي تجمعها بساكنة تلك المداشر و الدواوير النائية، و هي التي جعلت من زيارة سكانها ديدنا لا يفارقها و موعدا لا تتخلف عنه لتنشر السعادة و تنثر العطايا وتجزل البذل للجميع.
عذابات الطفولة المبكرة تصقل شخصية “الأم تيريزا” البهجاوية
عندما رأت “مريم العيساوي” النور بمنزل أسرتها البسيط بإحدى الأحياء الشعبية لعاصمة البهجة مراكش، لم تكن تعلم أن طفولتها ستختلف عن باقي أقرانها، فقبل أن يشتد عودها و بالتحديد في المدرسة الابتدائية عانت اضطرابات نطق و حبسة جعلتها مادة للسخرية و التنمر من لدن زملائها و جيرانها مما جعلها تئن تحت وطأة معاناة نفسية صعبة ؛ آثرت أمها أن تنتشلها منها بوضعها نزيلة في إحدى مؤسسات الرعاية الاجتماعية التي أسستها المناضلة ” مليكة الفاسي” بمراكش.
تشربت ” ميمي” مبكرا قيم الوطنية و الاعتزاز بتامغرابيت في محضنها الجديد، و اختلطت بشرائح اجتماعية متباينة من مختلف ربوع المملكة ( أيتام ، أطفال متخلى عنهم ، أطفال في وضعية الشارع…) ، أدى التحامها بهم لتكوين صداقات و علاقات إنسانية ممتدة توجت بالانخراط في العمل التطوعي عن طريق الخرجات التي كان تنظمها المؤسسة لدور رعاية المسنين والمستشفيات العمومية خاصة خلال الأعياد و المناسبات الدينية. وجدت ” ميمي ” ضالتها في تلك الأنشطة، فأدمنت زرع البسمة على الشفاه و توزيع هرمون السعادة المجاني حتى صار مسنو مراكش ومرضاها ينتظرون يوم طلة “صاحبة السعادة”.
هكذا تبلورت شخصية ” ميمي” الشابة التي ضمدت جراحها و اختارت أن تجعل ابتسامتها هبة ومنحة للبؤساء مثلها، رغم حداثة سنها و فراق أسرتها و وصمها الاجتماعي ك ” بنت الخيرية”، لتصبح بلسما شافيا و نموذجا مغربيا أصيلا للأم تيريزا، بقلب امتزجت فيه حمرة دماء الوطنية بخضرة واحات النخيل الممتدة بحجم الوطن … الممتدة بسعة كرم و رحابة صدر “ميمي”.
رحلة الموضة و الهندام … من موروكو إلى بلاد العم سام
لم تخلص “ميمي” أثناء مكوثها بالخيرية للعمل التطوعي و الإحساني فقط، بل وجدت متسعا لممارسة هوايتها المتفردة في تصميم الأزياء و الأكسسوارت بتأثير من نزيلات زاملنها وشاركنها سقف الخيرية، وصفتهن في إحدى تصريحاتها بكونهن ” متقدمات عليها في السن و بارعات الجمال “، كن قدوتها و مثلها الأعلى فسارت على خطاهن و حذت حذوهن . و حتى بعد خروجها من المؤسسة ظلت وفية لهوايتها إلى أن شاءت الأقدار أن تقودها تصميماتها المتميزة للحصول على تأشيرة سفر وإقامة بالولايات المتحدة الأمريكية لتمثيل المغرب في إحدى مسابقات الموضة و التصميم هناك.
و هكذا أضحت ميمي سيدة الموضة و سفيرة لماركة مغربية للحقائب الجلدية ذات صيت عالمي، فجابت أرجاء المعمور و زارت عواصم و مدن لم تخطر على بالها من قبل، لكنها لم تنس أبدا قيم التطوع و البذل و الوطنية التي تشبعت بها أثناء طفولتها بالخيرية.
آمنت “ميمي ” بالتقاسم و زرع الأمل ، فبادرت إلى منصات التواصل الاجتماعي و أفردت حساباتها هناك للإيجابية و السعادة و من الطبيعي أنها تعرضت لموجات من الحب و الترحيب من البعض، وأخرى من الهجوم و السب و بالرغم من أن مخالب النقد و التجريح قد نالتها ، فقد ظلت مؤمنة بقضيتها و بقيمها الأصيلة و لم تتورع لحظة واحدة عن المنح و العطاء.
زلزال الحوز يتفتق عن معدن “ميمي” الحقيقي
زلزلت الأرض زلزالها فأخرجت ميمي من جعبتها ما راكمته و ادخرته من قيم الحب و العطاء خلال سنوات، كما لو أنها ولدت تماما من أجل هذه اللحظة بالذات… تبدت لمتابعيها كملاك يطوف بين الأنقاض والجثث.. بحركاتها الطفولية وضحكاتها الممزوجة بالدمع و الأسى، و بشتائمها البلهاء التي وزعتها على الضحايا و المنكوبين لتقع منهم موقع عجيبا و تضفي مفعولا سحريا في قلوبهم أحال الحزن سعادة و رسم الابتسامة و البهجة على الوجوه الكالحة المغبرة، و لسان حال “ميمي” يردد بلا كلل ولا ملل : ” طقطق و دكشي أويلي الله يعطيكم مصيبة أنا بومبا عاش الملك “.
انزاحت “ميمي” عن المعتاد و خرقت المألوف ، و آثرت أن يكون عطاؤها متميزا و ببصمة خاصة، فعلاوة على توفيرها الملابس و الأغطية لمتضرري الزلزال، عمدت إلى اقتناء السجائر للرجال وفوطات النظافة للنساء و الألعاب للأطفال الصغار في دلالة صريحة على إلمامها بالاحتياجات الأساسية للضحايا . و لم تقف عند هذا، بل تمادت إلى جلب طباخ شهير يتقن إعداد وجبة الحريرة إلى عين المكان، وكانت قبلها قد بسطت سُفْرات الدجاج المحمر إكراما للمتضررين و المتطوعين و فرق الإنقاذ، لتختم مبادرتها بحفل شواء مستمد من ثقافة الأسواق الشعبية المغربية، ناقلة بذلك أجواء البهجة من قلب ساحة جامع الفنا إلى بؤرة الزلزال المدمر كضرب من الترويح و التخفيف النفسي.
قوبلت مبادرات “ميمي” على منصات التواصل الاجتماعي بإشادة واسعة و تفاعل منقطع النظير، فقد أحس المغاربة بأن وراء مأساة الحوز ثمة شيء رائع، تجلى في الهَبَّة الإنسانية التي عبّر عنها الشعب بالتضامن و التآزر مع المنكوبين. فكم من محنة تحوي في طياتها الكثير من المنح ، و لعل من أعظم و أروع منح مأساة الحوز هو البعد الإنساني و الرقي التضامني الذي أبان عن وحدة صف المغاربة في الضراء قبل السراء، و لا ريب أن “ميمي” شكلت إحدى نماذجه الناصعة و الأيقونية.