الجزائر – انسلّت السياسة ورسائلها إلى مشهد الاحتفالات الجزائرية بالذكرى السبعين لثورة الفاتح من نونبر لتثير الكثير من الجدل، فوسط ضيوف الجزائر البارزين، كان لرئيس المجلس الرئاسي الليبي، محمد يونس المنفي، مكانة استثنائية خصّه بها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، إذ منحه لقاءً انفرادياً حظي باهتمام الجميع لم يكشف عن تفاصيله، لكنه لم يكن نقطة الجدل الوحيدة، بل برز المنفي أيضاً إلى جانب زعيم الجبهة الانفصالية “البوليساريو” في لقطات رسمية أثارت استياءً واسعاً بين الفعاليات السياسية الليبية، التي ترى في هذه الخطوة زعزعة علاقة دبلوماسية تاريخية بين ليبيا والمغرب، وإشارة إلى خلل يعكس تبعات معقدة على صعيد العلاقات المغاربية.
فصول هذه القصة الجديدة انطلقت في هدوء تام، حين أصدرت رئاسة الجمهورية الجزائرية بلاغاً يختزل من الغموض بقدر ما يحمل من معانٍ خفية، إذ لم تتجاوز أسطره القليلة اثنين، وأعلن بإيجاز أن الرئيس عبد المجيد تبون خصّ نظيره رئيس المجلس الرئاسي الليبي، محمد يونس المنفي، بلقاء منفرد يوم الجمعة، دون أن يفصح عن تفاصيل أو أهداف هذا اللقاء كما جرت العادة في المناسبات الرسمية، وهذا الصمت الدبلوماسي الذي يتوارى خلف الكلمات المحدودة سرعان ما أثار التساؤلات، مفسحاً المجال لتأويلات وتخمينات، تأخذ من التوقيت وسياق الحدث مادة خصبة للتحليل.
ويأتي هذا اللقاء في لحظة زمنية بالغة الدقة، حيث تشهد المنطقة تحولات جيوسياسية مفصلية تتسارع بوتيرة تعيد تشكيل المواقف والمحاور، فبينما يتصاعد الاهتمام الإقليمي والدولي بقضية الصحراء، وتبرز بوادر تقارب إيجابي بين الرباط وعدد من العواصم الكبرى، تظل الجزائر في موقع المراقب الحذر، لا سيما بعد الزيارة الأخيرة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، التي لم يُخْفِ قصر المرادية امتعاضه منها، ما أضاف بعداً جديداً إلى واقع التوترات الصامتة.
وهكذا، فإن لقاء تبون والمنفي بشكل انفرادي خاص، وبصوره التي جمعت الأخير مع زعيم الجبهة الانفصالية “البوليساريو”، لم يكن مجرد حدث عابر، بل جاء ليصنع مشهداً مُحَيِّراً لكثير من المراقبين والفاعلين السياسيين، على اعتبار أنه مشهد يتشابك فيه الدبلوماسي مع السياسي، والإقليمي مع الوطني، وكأن هذا اللقاء الانفرادي بحد ذاته رسالة موجهة، تعبر في ثناياها عن رؤى وملفات تتجاوز أروقة الجزائر وليبيا لتصل تداعياتها إلى حدود الأزمات المفتوحة.
ولأن كل حركة دبلوماسة محسوبة وسط سباق إقليمي مستتر على النفوذ والتأثير، سارعت رئاسة المجلس الرئاسي الليبي لمُحاولة تلافي ما حدث ولملمة القراءات المُمكنة إزاءه سيّما وأن أغلبها صبّ في سياق التحولات الاقليمية الأخيرة، يوجد المغرب في أغلب تفاصيلها، من خلال بيان هو الأخر كان مقتضب، جاء فيه أن رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، تباحث مساء الجمعة، مع الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، “عددا من الملفات الثنائية”.
وبقدر ما سعى البلاغ المقتضب الصادر عن رئاسة المجلس الرئاسي الليبي إلى تلطيف أجواء الترقب وإخماد القراءات المحتملة التي قد تفسر اللقاء المستتر بين تبون والمنفي كمحاولة لتعكير صفو العلاقات المغربية الليبية، لم يكن هذا البلاغ كافياً لتهدئة موجة التأويلات التي أثارها. فقد أكد البيان أن اللقاء أتى “للتنسيق والتشاور حول القضايا المشتركة”، دون أدنى توضيح لطبيعة هذه القضايا أو محاورها، مكتفياً بالإيحاءات التي لم تُخفِ غموضاً مقصوداً أو ربما، دلالة غير مُعلنة.
وهكذا، وجد المراقبون والفاعلون السياسيون أنفسهم أمام مشهد ضبابي يحفزهم نحو مزيد من التحليل والتكهنات، لا سيما أن البيان، بجموده المُتعمد وابتعاده عن التفاصيل المعهودة، بدا كأنه جزء من لعبة سياسية خفية، تجذب الانتباه بقدر ما تتركه متردداً بين الاحتمالات، وكأن هناك ما يجب أن يبقى بين السطور، مُحيراً ومتعمداً في غموضه.
وفي هذا السياق، قال عبد الهادي الحويج، وزير خارجية الحكومة الليبية، بشأن اللقاء الذي جمع محمد يونس المنفي، رئيس المجلس الرئاسي الليبي، بزعيم الجبهة الانفصالية “البوليساريو” على طاولة حوار واحدة، برعاية الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، وبحضور كل من الرئيس التونسي قيس سعيد، والرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني، وزعيم جبهة “البوليساريو” إبراهيم غالي، تحت عنوان “زعماء الدول المغاربية”، الأمر الذي أثار الكثير من التساؤلات حول دلالاته، غير أن الحويج آثر عدم التعليق على الموضوع، تاركاً وراءه مساحات من الصمت تستدعي مزيداً من التحليل والتساؤل، خاصة بعد أن وثقت اللحظة صورة رسمية جمعت القادة الأربعة بزعيم الجبهة الانفصالية، ثم أخيرا اللقاء الذي جمع المنفي بتبون على انفراد، ما عزز التكهنات حول مضامين اللقاء وما حمله من رسائل سياسية غير معلنة.
ومن هذا المنطلق، تواصلت الجريدة أيضا مع عدد من النواب البرلمانيين الليبيين لاستفسار موقفهم إزاء هذه المستجدات، ومن بينهم عضو مجلس النواب الليبي جبريل أوحيدة، الذي نوّه بمستوى العلاقات المغربية الليبية، وكل ما قدّمته الرباط من دور طلائعي في حل الأزمة الليبية، مشدّدا على أن واقعة المنفي في الجزائر هي حالة نشاز في العلاقات.
أوحيدة، وفي تصريح خص به الجريدة ، قال “لا أجد ما أصف به تصرف المنفي في الجزائر المسيء للمغرب والعلاقات الليبية المغربية، إلا كونه رعونة وغباء سياسي أنا على يقين أنهم لا يدركون أبعاده”، مشدّدا على أن هذا المشهد ككل المنافي للقيم الليبية والعقيدة الدبلوماسية الليبية محض تصرف نشاز يصبو من خلاله “إرضاء دولة أخرى على حساب المغرب”. يقول النائب البرلماني الليبي في إشارة إلى أن الصورة واللقاء الغرض منهما إرضاء الجزائر البلد المُضيف.
بالمُقابل، شدّد النائب البرلماني الليبي في التصريح ذاته الذي خص به الجريدة على أن المملكة المغربية “لم يأت منها أي شر أو تدخل في شأن ليبيا الداخلي، بعكس دُول إقليمية أخرى عاثت فسادا بتدخلاتها في الشأن الليبي وجوارها لأجندات مختلفة هي بالتأكيد ليست في صالح ليبيا ولا أمنها القومي”.
وزاد المتحدث في ضمن التصريح ذاته: “دولة المغرب كانت دائما على مسافة واحدة من أطراف النزاع الليبي وقدمت عدة مبادرات للمصالحة في ليبيا وحل أزمتها وقد رعت على أرضها عدة حوارات سواء بمبادرة مغربية أو أممية، كل ذلك يحسب للمغرب الذي ندعو أن يديم استقراره وازدهار”.
وكان الاجتماع “التشاوري المغاربي” الذي دعا إليه الرئيس التونسي قيس سعيد وحضره الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ورئيس المجلس الليبي محمد يونس المنفي في غياب المغرب وموريتانيا، شهر أبريل الماضي قد تسبب في ضجة كبيرة ما اضطر المجلس الرئاسي الليبي، ودرءا لأي سوء فهم من شأنه التشويش على العلاقات الليبية المغربية، أو نظيرتها الليبية الموريتانية، إلى إيفاد مبعوثين خاصين إلى كل من الرباط ونواكشوط.
وتحدّثت مصادر مسؤولة في المجلس لـ “الصحيفة” حينها عن الرسالة الخطية التي وجّهها رئيس المجلس الرئاسي الليبي للعاهل المغربي محمد السادس، ونقلها مبعوثه الشخصي وشقيقه سامي المنفي، إلى الرباط معتبرا أنها “خطوة طبيعية لكنّها مهمة وضرورية، بعدما انتشرت جملة من الأخبار المُجانبة للصواب، والتي تتحدّث عن نية إحداث تكتل مغاربي على غرار اتحاد المغرب العربي، دون المغرب وموريتانيا البلدان المؤسسان، والعضوان الرئيسان في أي تكتل إقليمي مرتقب”
وشدّدت المصادر الحكومية الليبية ذاتها، على أن طرابلس متشبّثة بمبدأ ضرورة إحياء اتحاد المغرب العربي باعتباره الإطار الوحيد للدول المغاربية الخمسة منذ تأسيسه، كما أنها تكن احتراما خاصا للمغرب، الذي لم يدّخر جهدا في تسخير كل أنواع الدعم لكافة الأطراف الليبية من أجل بلوغ التوافق بين الفرقاء الليبيين، مضيفا: “ليبيا ستتذكّر دائما ما فعله المغرب لنُصرة استقلالها وسيادتها وتوافقها، ومن المؤكد أنها لن تطعنه أو تقرب سيادته بسوء أو تسير في أي تكتل أو اتفاق يتنافى ومصالح المملكة، وهي تماما العقيدة التي عبّرنا عنها مرارا للدبلوماسية المغربية في شخص وزير خارجية المملكة ناصر بوريطة والرسالة الخطية التي بعث بها رئيس المجلس للملك محمد السادس”
وتضمّنت الرسالتين الخطيتين أيضا، وفق المصادر ذاتها، تأكيدا على “عمق العلاقات الثنائية التي تربط طرابلس بالعاصمتين المغاربيتين (الرباط ونواكشوط)، وعلى ضرورة استمرارية التشاور الوثيق وتعزيزه في كافة القطاعات، ومن ضمنها تفعيل دور اتحاد المغرب العربي”.
من جهة ثانية، وجوابا على سؤال للجريدة ، حول ردود الفعل المغربي إزاء الخطوة الليبية التي أعقبت الاجتماع الثلاثي المغاربي، سيّما وأن الوجوه الدبلوماسية لكل من وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، والمبعوث الليبي سامي المنفي خلال الاستقبال لم تكُن تُبشر بتوافق أو اتفاق، قالت المصادر المسؤولة في الحكومة الليبية، نقلا عن المجلس الليبي إنها كانت “إيجابية، وبوريطة استقبل المنفي برحابة وأبدى تفهُّمه.. وعبر عن الرغبة في أن تبقى العلاقات المغربية الليبية في منأى عن أي تشويش، وتدوم حسن العلاقات وتعزيز التعاون المشترك”.
مملكتنا.م.ش.س