الدوّار والقبيلة في الأطلس المتوسط .. قراءة في البنيات التقليدية وتحولاتها لدى قبائل زيان وأجلموس وخنيفرة

الثلاثاء 18 نوفمبر 2025 - 22:58

بقلم: د. امحمد أقبلي – رئيس جماعة أجلموس

يمثل الأطلس المتوسط، وخاصة مجال قبائل زيان الممتد بين خنيفرة وأجلموس، فضاءً غنياً لفهم ديناميات المجتمع القروي المغربي. فرغم تعاقب التحولات السياسية، وصعود الدولة الحديثة، وبروز مؤسسات جديدة، ما تزال البنيات التقليدية، وفي مقدمتها الدوّار والقبيلة، تمارس تأثيراً مركزياً في الحياة اليومية، وفي توزيع السلطة، وبناء الشرعية المحلية. وتنهل هذه الدراسة من السوسيولوجيا السياسية والأنثروبولوجيا الجبلية، ومن أعمال مرجعية مثل باسكون¹ وغلنر² وهارت³، إلى جانب معطيات ميدانية دقيقة من قبائل زيان، خصوصاً آيت حركات، آيت بومزوغ، آيت حدو وحمو، آيت منصور آيت معي، وأهبار.

تنطلق هذه الدراسة من السؤال المحوري:
كيف تستمر البنيات القبلية والدوّارية لدى قبائل زيان في أداء وظائفها الاجتماعية والسياسية داخل الدولة الحديثة؟
ويتفرع عنه سؤالٌ آخر: ما دلالة هذا الاستمرار على مستوى الشرعية، والتنمية، والحكامة الترابية في الأطلس المتوسط؟

– أولاً: الدوّار كبنية اجتماعية منتجة للتماسك

يعتبر الدوّار الإطار البنيوي الأول الذي تتشكل داخله العلاقات الاجتماعية في المجال الزاياني. ففي دواوير مثل دوار الباشا ودوار أمْهروق، تظهر ممارسات متجذرة مثل تنظيم الماء وفق حصص معروفة، أو إصلاح المسالك عبر العمل الجماعي “تاويزا”. ويؤكد بول باسكون أن الدوّار “خليّة اجتماعية ذات تنظيم داخلي عقلاني وإن بدا بسيطاً في مظهره”¹، وهو ما تعكسه البنية اليومية في دواوير أجلموس التي تستمر فيها أشكال القيادة الجماعية الموروثة.

– ثانياً: آيت حركات – الذاكرة الجماعية وضبط المجال

تحافظ قبيلة آيت حركات على مكانة مهمة داخل النسيج الاجتماعي للمنطقة، إذ تستمر الجماعة في لعب دور الوسيط في حل الخلافات حول الماء والمراعي، وفي تنظيم العلاقات بين الأسر. ويشير هارت إلى أن القبائل الجبلية تبني مشروعيتها على “الثقة الجماعية ورأسمال المكانة”³، وهو ما يظهر بوضوح في آيت حركات عبر تماسكها الداخلي واستمرار تقاليدها في فضّ النزاعات.

– ثالثاً: آيت بومزوغ – سلطة العرف واستدامة الموارد

تتميز آيت بومزوغ ببنية تنظيمية تُعلي من شأن العرف، خاصة في تدبير الأراضي الجبلية والمراعي. ويقوم أعضاء الجماعة بتحديد مواعيد الحرث، وتقاسم المنابع، وتسيير الموارد وفق قواعد موروثة، تعززها المشاركة الجماعية. ويرى غلنر أن هذا النمط “يطبع المجتمعات الجبلية بتوازن دقيق بين الحرية الفردية والضبط الجماعي”².

– رابعاً: آيت حدو وحمو – توازن العرف والمصلحة المشتركة

تتمتع آيت حدو وحمو بشبكة علاقات اجتماعية عميقة تضمن وحدة المجموعة. وتبرز داخلها آليات وساطة تقليدية تعتمد التوافق، خاصة في توزيع الماء واستغلال الغابات. وتُظهر التجربة اليومية لهذه القبيلة أن الأعراف ما تزال قادرة على التكيّف مع المستجدّات الاجتماعية والاقتصادية دون أن تفقد تماسكها الذاتي.

– خامساً: قبيلة أهبار – مجموعة زايانية متجذرة في المجال المحلي

تمثل أهبار إحدى المجموعات العائلية–المجالية داخل النسيج الزاياني، وتتميز بوحدة اجتماعية قوية وبأعراف مستمرة لتنظيم الماء والحقول والسلوك الجمعي. ورغم أنّها ليست قبيلة مستقلة بالمعنى الأنثروبولوجي، فإن حضورها داخل المجال الاجتماعي لأجلموس وخنيفرة ثابت وفاعل، ويعكس نفس المنطق العرفي الذي تحدث عنه باسكون حول “توازنات القرابة”¹. ويحافظ أبناء أهبار على جماعة داخلية تتدخل في فض النزاعات، مما يجعلها جزءاً أصيلاً من البنية الزايانية.

– سادساً: قبيلة آيت منصور آيت معي – نموذج جديد لبروز النخب وصناعة الشرعية الحديثة

هذه القبيلة، التي تشكل إحدى المجموعات المركزية داخل النسيج الزاياني، تقدم نموذجاً واضحاً لتحوّل البنية القبلية باتجاه إنتاج نخب جديدة تربط بين شرعية الانتماء وشرعية الإنجاز.
وتتميز آيت منصور آيت معي بروابط القرابة المتينة، وبهيكلة اجتماعية داخل الدوار تعتمد على الجماعة، وعلى توازن أدوار الأسر. لكن الجديد خلال العقدين الأخيرين هو ظهور نخبة متعلمة تمارس أدواراً جديدة داخل القبيلة، وفي مقدمتها القيادة المؤسساتية داخل جماعة أجلموس.

لقد ساهم هذا التحول في انتقال القبيلة من شرعية مستندة إلى السن والمكانة التقليدية، إلى شرعية حديثة تستند إلى الكفاءة والمبادرة والعمل التنموي. فالنخبة الجديدة التي خرجت من رحم آيت منصور آيت معي أعادت رسم علاقة الدوّار بالدولة، من خلال تأطير الساكنة، ورفع المطالب التنموية، والمساهمة في تتبع مشاريع الماء والطرق والتعليم والصحة.
ويؤكد James Scott أن النخب المحلية حين تكتسب ثقة السكان تصبح “وسيطاً ضرورياً بين الدولة والمجتمع”⁴، وهو ما يظهر بوضوح في آيت منصور آيت معي، حيث أصبحت هذه القبيلة نموذجاً لصناعة قيادات جديدة تُزاوج بين الإرث التقليدي ومنطق الدولة الحديثة.

وتبرز اليوم قيادة جماعة أجلموس كأحد أهم الأمثلة على هذا التحول، إذ يشكل هذا الموقع المؤسساتي تتويجاً لتراكم اجتماعي وتعليمي داخل القبيلة، ويعكس قدرة آيت منصور آيت معي على إنتاج نخب ذات رؤى تنموية، قادرة على التفاوض والابتكار وتعبئة الموارد المحلية.
وبذلك أصبحت القبيلة فضاءً لإعادة إنتاج النخبة بدل أن تبقى مجرد إطار للانتماء الرمزي، وهو ما يجعلها نموذجاً جديراً بالدرس داخل منظومة الأطلس المتوسط.

– سابعاً: الدولة والدوّار – علاقة تكامل لا تناقض

تشير التجارب الميدانية في أجلموس وخنيفرة إلى أن الدولة تعتمد على الدوّار كوحدة مرجعية لتحديد الخصاص وتوجيه المشاريع. فالدوار يحدد حاجة التلاميذ إلى النقل، ويحدد نقاط الماء، ويرسم أولويات الطرق والمراكز الصحية. وفي المقابل، تعتمد الساكنة على برامج الدولة لتنفيذ مشاريعها. ويصف باسكون هذا التفاعل بأنه “زواج بين منطقين: منطق الدولة ومنطق الجماعة”¹، وهو ما يجعل الأطلس المتوسط نموذجاً في قدرة البنيات التقليدية على التكيف لا على الانكماش.

تؤكد دراسة البنيات الاجتماعية في الأطلس المتوسط، خصوصاً لدى قبائل زيان، أن الدوّار والقبيلة ما يزالان يشكلان عناصر مركزية في بناء الشرعية وتدبير الموارد وتنظيم العلاقات الاجتماعية. وما تزال هذه البنيات تمارس دورها التاريخي، لكنها تفعل ذلك داخل سياق جديد، تُعيد فيه تشكيل ذاتها عبر النخب الصاعدة، كما يظهر بوضوح في قبيلة آيت منصور آيت معي.
ويُظهر هذا التحول أن القبيلة ليست بنية من الماضي، بل آلية اجتماعية قابلة للتجدد، وأن فهم التنمية في الأطلس المتوسط لا يمكن أن يتم دون إدماج الدوار والقبيلة في صميم السياسات الترابية.

الهوامش

1. Paul Pascon, Le Haouz de Marrakech, Paris: CNRS, 1977.

2. Ernest Gellner, Saints of the Atlas, University of Chicago Press, 1969.

3. David Hart, The Aith Waryaghar of the Moroccan Rif, Mouton, 1976.

4. James C. Scott, Seeing Like a State, Yale University Press, 1998.

Loading

مقالات ذات صلة

الإثنين 17 نوفمبر 2025 - 15:37

إشكالية تنفيذ الأحكام القضائية في ضوء المادة 8 مكرر المستحدثة لقانون المالية 2026

الثلاثاء 11 نوفمبر 2025 - 21:39

الجيل الجديد من البرامج التنموية الترابية المندمجة بالمغرب .. من الرؤية الملكية إلى تنزيل العدالة المجالية

الأحد 2 نوفمبر 2025 - 12:31

استشراف المستقبل ما بعد 31 أكتوبر في قضية الصحراء المغربية .. نحو هندسة سيادية جديدة

الثلاثاء 28 أكتوبر 2025 - 18:57

تكذيب رسمي وحسم شافٍ .. الرواية الكاذبة حول ما سمي ب ” فضيحة الدكتوراه “