تدخل جبهة البوليساريو مرحلة حرجة تضع مستقبل مشروعها الانفصالي أمام تحديات مفصلية، وذلك في ظل تعالي أصوات منتقدة لأدائها من داخل مخيمات تندوف، ووسط الانقسامات الداخلية في صفوف القيادة، خاصة بعد تعثر المشاورات التحضيرية للمؤتمر وما رافقها من اتهامات متبادلة بين أعضاء اللجنة المركزية حول أحقية الترشح وجدوى الاستمرار في النهج القائم منذ سنوات.
تبرز هذه الانتقادات عبر مبادرات متقدمة، أهمها العريضة الموقعة من طرف نشطاء من داخل المخيمات، إلى جانب تصريحات صادرة عن قيادي عضو “الأمانة الوطنية” بـ”ضعف المعنويات” و”غياب خطط فعالة للمواجهة”.
تكشف هذه المؤشرات، وفق وثائق اطلعت عليها جريدة هسبريس الإلكترونية، اتساع الهوة بين قيادة الجبهة وقاعدتها، خاصة في ظل الاضطرابات الأمنية والتوتر الاجتماعي داخل المخيمات، كما تؤكد هذه الوثائق وجود تصدع داخلي يشكك في قدرة التنظيم على الحفاظ على تماسكه الداخلي.
ويرى مراقبون أن حجم الانتقادات العلنية وتوقيتها يكشفان تآكلا في مشروعية القيادة الحالية، خاصة مع غياب أي رؤية استراتيجية واضحة وعجزها عن تقديم بدائل ملموسة للساكنة، في وقت تتجه فيه التحولات الإقليمية والدولية نحو دعم تسوية سياسية تخدم مصالح المملكة المغربية.
تأتي هذه التطورات بعد أيام قليلة من تداول عريضة وقعها أكثر من 150 من نشطاء الجبهة داخل المخيمات، حملت انتقادات شديدة اللهجة للقيادة، واتهمتها بالعجز عن معالجة الأوضاع المتدهورة، مشددة على ضرورة التغيير وتوسيع دائرة المشاركة السياسية.
وتعزز هذه المؤشرات ما ورد في تصريحات البشير مصطفى السيد، أحد أبرز قياديي الجبهة الانفصالية عضو ما يسمى “الأمانة الوطنية”، في تسجيل صوتي جرى تداوله على نطاق واسع داخل المخيمات، تحدث فيه عن “تراجع في المعنويات”، و”شعور بالإرهاق وسط القيادات والكوادر”، مشيرا إلى “ضعف آليات الاشتغال وانعدام التنسيق الميداني”، فضلا عن “الفراغ في الخطاب السياسي” و”انعدام التحفيز في الجبهة الداخلية”.
وسجل البشير أن “العدو في أحسن حالاته”، بينما تعاني الجبهة من “ضعف في الموارد والجاهزية”، مضيفا أن “الحرب تستنزفنا بشريا ولوجستيا، دون تحقيق مكاسب فعلية على الأرض”، قبل أن يذكر بـ “عزوف الشباب عن الالتحاق بجبهات القتال”، وعن “انهيار منظومة التعبئة”.
في هذا الصدد، قال دداي بيبوط، باحث في التاريخ المعاصر والحديث، إن لا شيء يشغل بال الصحراويين داخل مخيمات تندوف في الآونة الأخيرة أكثر من الحديث عن مصير مشروع البوليساريو وطرح أسئلة وجودية بشأن مستقبله، مؤكدا أن “الغالبية العظمى باتت ترى استحالة الاستمرار في هذه الوضعية لأسباب لم تعد خافية على أحد، في مقدمتها الفشل الذريع للقيادة في تدبير أبسط شؤون المخيمات”.
وأضاف بيبوط، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن هناك تخوفا عميقا ومتواترا بين صفوف الصحراويين من “سكتة قلبية” قريبة لشيء اسمه البوليساريو، نتيجة الانتكاسات المتلاحقة التي يعيشها التنظيم على المستويات كافة: الدبلوماسية، والعسكرية، والأمنية، وحتى في إدارة الشأن اليومي داخل المخيمات، لافتا إلى أن “أغلب المحتجزين يعتبرون أن الجبهة خسرت عمليا كل أوراقها التفاوضية، وفي مقدمتها ما كان يُسمى ‘الأراضي المحررة’، حيث لم يعد هناك أي هامش للمناورة أمام الصرامة والانضباط اللذين تُظهرهما القوات المسلحة الملكية المغربية في حماية الحدود الجنوبية للمملكة.
وشدد المتحدث ذاته على أن الاعترافات الدولية المتزايدة بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، وبدعم مقترح الحكم الذاتي كحل جاد وواقعي، يعمّق عزلة البوليساريو ويكشف زيف روايتها، مشيرا إلى أن “هذا المقترح بات يمثل طموحا حقيقيا للصحراويين في الأمن والاستقرار والعيش الكريم، بعد خمسين سنة من التهجير القسري إلى أرض لحمادة بفعل تدخل الجزائر في الشؤون الداخلية للمغرب، ومحاولتها اقتطاع جزء من ترابه لضمان منفذ نحو المحيط الأطلسي، في ضرب صارخ لكل المواثيق الدولية”.
وأوضح الخبير ذاته أن سقوط المشروع الانفصالي لا يرتبط فقط بنجاح الدبلوماسية المغربية، بل يرتبط أيضا بفشل جبهة البوليساريو الذاتي، نتيجة غياب الاستقلالية في القرار، وارتهانها الكلي لأجندات النظام الجزائري، منذ اللحظة التي تبنت فيها أطروحة الانفصال ومحاولة اقتطاع جزء من أرض الصحراويين ضد رغبتهم، وتحت ذريعة تمثيلهم، في حين إنها عجزت حتى عن إقناع منتسبيها داخل بيوتهم.
واعتبر بيبوط أن السجل الحقوقي الأسود لقيادة البوليساريو، الذي يشمل التصفية الجسدية والانتهاكات الممنهجة بحق الصحراويين داخل المخيمات، واستغلالهم كورقة ضغط للحصول على الدعم، هو أحد أبرز أسباب تآكل شرعيتها، مؤكدا أن “التنظيم لا يتردد في التضحية بأمن المخيمات خدمة لشبكات تهريب المخدرات، وترويع المحتجزين عبر تسليم مصيرهم لقوات الجيش الجزائري التي تتكفل بتأديب كل من يعبر عن رفضه للوضع القائم”.
وفي هذا الإطار، أكد بيبوط أن حالة السخط في صفوف الشباب الصحراوي بلغت مستويات غير مسبوقة، مع تصاعد القناعة الجماعية بعدم إمكانية الاستمرار في مشروع “ميت”، يعيد إنتاج الفشل نفسه منذ خمسة عقود.
وتعليقا على التصريحات الأخيرة للبشير مصطفى السيد، القيادي في البوليساريو، أوضح دداي بيبوط أن هذه التصريحات لا تحمل جديدا، وتأتي في إطار محاولة استباقية لتهيئة المناخ داخل المخيمات استعدادا للمؤتمر المقبل، عبر الترويج لشعارات فضفاضة مثل “استنهاض الهمم”، و”استرجاع الاعتراف الدولي”، و”بناء البدائل”، معتبرا أن “البشير، المعروف بسجله في انتهاكات حقوق الإنسان، يكرر الخطابات نفسها كلما اقترب موعد المؤتمر، بحثاعن تأييد شخصي لترشيحه المحتمل داخل التنظيم، في سياق صراع داخلي محموم على الزعامة”.
وأكد أن أبرز ما يميز المرحلة الحالية داخل المخيمات هو نشر عريضة موقعة من طرف عدد من الصحراويين الرافضين لسياسات القيادة، مذكرا بـ”أنها جاءت متزامنة مع تراجع واضح في الاعتراف الدولي بالبوليساريو، ومع تصاعد الدينامية السياسية والدبلوماسية في الصحراء المغربية، من خلال افتتاح العديد من القنصليات العامة بعدد من مدن الصحراء، وهي خطوة ذات رمزية سيادية قوية تعزز شرعية الموقف المغربي، وتضع علامات استفهام حقيقية حول تمثيلية البوليساريو ومصداقيتها”.
وأنهى دداي بيبوط حديثه لهسبريس بالتأكيد أن “المرحلة المقبلة ستكون حاسمة بالنسبة لجبهة البوليساريو، خاصة إذا ما استمر التآكل الداخلي وتزايدت الضغوط الخارجية”، مشددا على أن “المؤتمر القادم قد يكون آخر محاولة لترميم ما يمكن ترميمه، وإن كان من المستبعد أن ينجح في ذلك وسط أجواء التآكل، والانقسامات، والتشكيك في الشرعية، والتهديدات الجدية بزوال التنظيم نهاية هذه السنة أو في غضون العام المقبل على أبعد تقدير”.
من جانبه، سجل سعيد بوشاكوك، باحث أكاديمي مهتم بملف الصحراء، أن جبهة البوليساريو لا تزال تواصل ما سماه “رحلة دون كيشوت ديلامانشا”، في إشارة إلى الشخصية المتخيلة في الأدب الإسباني التي تحارب طواحين الهواء، مبرزا أن “التنظيم الانفصالي يعيش في حالة إنكار تام للواقع، ويواصل الإيمان بأساطيره المؤسسة رغم توالي الهزائم والانتكاسات التي مني بها ميدانيا ودبلوماسيا”.
وأوضح بوشاكوك، ضمن إفادة لهسبريس، أن قيادة البوليساريو “تتغذى على الوهم وتعيد إنتاج خطابها القديم الذي تجاوزه الزمن”، مشيرا إلى أن “الاجتماعات التحضيرية للمؤتمر المرتقب لا تعدو أن تكون ‘جعجعة بلا طحين’، خاصة أن أجواء التوتر والانقسام تخيم على كل محطاته، في وقت أصبح فيه سكان المخيمات أكثر وعيا بأن مصلحتهم الحقيقية تكمن في العودة إلى المغرب والانخراط الجدي في مشروع الحكم الذاتي”.
وأضاف المتحدث أن الإنجازات المتراكمة التي تحققها المملكة في الصحراء، تجسيدا لرؤية ملكية متبصرة، ودعما من ساكنة الأقاليم الجنوبية ونخبها السياسية والاقتصادية، شكلت ضربة قوية لأطروحة الانفصال، التي باتت اليوم بلا أفق ولا دعم فعلي في الساحة الدولية.
وانتقد بوشاكوك ما وصفه بـ”مسرحيات المؤتمرات” التي تُنظم بتخطيط وتوجيه من النظام العسكري الجزائري، لافتا إلى أن “الأمر لا يعدو أن يكون ‘سيناريوهات مفبركة تكرّس منطق الولاء والتبعية’، في ظل غياب أي ممارسة ديمقراطية حقيقية داخل الجبهة التي تحتكم إلى منطق الرأي الواحد والطرح الأوليغارشي المستبد”.
وسجل الباحث ذاته أن تقارير دولية عديدة وذات مصداقية أكدت الوضع المزري الذي تعيشه ساكنة المخيمات، من هشاشة اجتماعية، وانفلات أمني، وسوء تغذية، مؤكدا أن “كل هذه العوامل تعمّق الإحباط الجماعي وتؤجج الرغبة في الانفكاك من قبضة البوليساريو”.
وختم سعيد بوشاكوك حديثه لهسبريس بالتساؤل: “إلى متى ستؤجل قيادة البوليساريو مراجعة أطروحتها الميتة؟”، مسجلا أن “هامش المناورة يضيق يوما بعد يوم أمام قوة المقترح المغربي من حيث التأييد الدولي والمصداقية، في عالم سريع التحولات لا ينتظر من يتشبث بالأوهام والشعارات البالية”.
مملكتنا.م.ش.س