محمود هرواك
ليست كل القصص العائلية تُروى في صمت، ولا كل النهايات تأتي بنقطة نهاية واضحة. البطل دائماً ليس كما يُرسم في النُّصوص الرسمية؛ أحياناً يكون امرأة تنهض من تحت الرماد بأوراقها الموثّقة ودموعها المكابرة، كما هو حال سكينة بنجلون، المهندسة والدكتورة على حد سواء، المنعشة العقارية والكاتبة المرموقة في الجيوبوليتيكا.. والتي تحوّل طلاقها من مجرد انفصال بين زوجين إلى معركة مجتمعية تُسلّط الضوء على ثغرات قوانين الأسرة وعنفٍ جديد يُسمى “الاقتصادي”.
منذ أن طغى صوت “الشقاق” بين سكينة وزوجها السابق الميلياردير، لم تعد “البيوت أسراراً” بل “ملفات قضائية”. في مواجهة طوفان من الدعاوى القضائية، والمناورات القانونية، تبدو سكينة أقرب إلى شخصية مأساوية معاصرة وجدت نفسها نقلت قصتها من محاضر المحاكم إلى قلوب المغاربة من كل الأجيال.
فما بين 12 دعوى متتالية، وضغوط اقتصادية ونفسية لا تُطاق، وجدت سكينة نفسها تخوض حرب استنزاف حقيقية: المحاكم كأنها ملعب مفتوح لا يملّ خصومه من تكرار الشكايات، والموارد تذوب بين أتعاب المحامين، والإيجار، ومتطلبات الحياة اليومية لأربعة أطفال. ومع ذلك، لم تتوقف سكينة عن التوثيق والكتابة بل اعتبرت قلمها سلاحاً بدلاً من سيف الظل الذي يطاردها في الواقع.
قد يسأل القارئ: أليس الطلاق نهاية وانفصالاً وحلاً قانونياً؟ ستكتشف مع قضية سكينة أن ما بعد الطلاق في مجتمعاتنا قد ينقلب جحيماً بلا نهاية للمرأة؛ تبدأ سلسلة “تفكيك الحياة” بقرار قضائي هادئ لتنتهي بفواتير كرامة مقسّطة تحت مبرر الإنفاق والولاية والنفقة… أن تهزم المرأة في معركة النفقة أمام رجل يوظّف كل ثغرة قانونية، وتُترك لتُربي أربعة أطفال بـ 2500 درهم شهرياً، رغم أن والدهم ميلياردير فهذا لا يسمى “حَلّاً”، بل جعل من العدل شعاراً مجازياً.
سكينة، التي كانت وراء نجاح أسرتها وبناء الثروة، وجدت نفسها مُقصاة من كل الاعتراف. ليست وحدها في ذلك، لكن جرأتها على الخروج للعلن، والكتابة، والترافع عن نفسها وعن فكرة “الكد والسعاية” والحقوق غير المكتوبة للمرأة، جعلت منها أيقونة غير رسمية للنضال الهادئ ضد نظام يعتاد الصمت حين يكون صوت المرأة على المحك!
وفي خضم هذه الرحلة، تُواجه سكينة طليقاً لا يندم على فتح عشرات القضايا، ولا يتراجع في استعمال وسائل الضغط— أياً كانت — لمنع صوتها من الوصول أو انتصاره لدى الرأي العام من وراء ستار.. غير أن الناس حين تابعوا حكايتها، تعاطفوا مع جوهر الإنسانية في معاناتها. ما جذب الانتباه ليس فقط سردها الذكي للأحداث، بل شجاعتها في انتزاع المظلومية من مناخ “اللعبة” القضائية وتحويلها إلى قضية رأي عام. نجحت في جعل المغاربة يقارنون بين القانون والعدالة، بين النص والواقع، وبين ما تكتبه “المذكرات الدفاعية” وبين ما يكتبه قلب أم في ليل الوحدة المفروضة عليها بقسوة!
اليوم، تطمح سكينة ألا يكون صوتها فقط لعائلتها الصغيرة، بل نموذجاً لكل امرأة أُريد لها أن تُدفن في الهامش بقوة الإجراءات وجبروت الزوج! هي تطالب مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، كما الصحافة والإعلام ليس باستعطاف أو شفقة، بل بإصلاح منبع الخلل حتى لا تتكرر مأساتها ولا تُهزم النساء بقانون يشبه القاتل الصامت. تتعهد سكينة بحمل معاناتها إلى البرلمان، إلى الإعلام، وحتى إلى الجامعات التي قبلتها لتقود فيها أبحاثاً حول مرامي التشريع الأسري ومعاناة المرأة المستقلة الحداثية مع العقلية الذكورية وصولا للعدالة الاجتماعية المبتغاة.
الدعوة هنا ليست فقط للتضامن مع سكينة كشخصية، بل مع فكرة الإنصاف الحقيقي لكل امرأة قد تمر بهذه الدوامة وحدها! قضية سكينة ترسم ملامح سؤال أكبر: كيف نصنع عدالة اجتماعية تحت سقف بيت تبدو فيه القوانين بلا سقف حماية؛ بعبارة أخرى؛ عارية؟
على الجميع اليوم أن يسمع، يشارك، ويفتح نقاشاً حول مصير النساء بعد الطلاق أن يعيد النظر في الكيفية التي تستعمل بها الثغرات ضدهن، كيف يُستبدل الفقد بالصمت، ويُصبِح الإبداع وطلب المساندة علامةً على الجنون أو “الطيش”. ما تريده سكينة ليس انتقاماً من شخص بقدر ما تعتبره إصلاحاً لوضعية حقوقية يحتاجها المغرب: ألا تُهان أية امرأة بعد اليوم لأنها تجرأت على المطالبة بنصيبها من العدل ومن الحياة وكتبت وصدحت بذلك!
كل دعم علني، كل مشاركة لهذه القصة، هو خطوة نحو كشف أن “السكوت” لم يعد حكمة في هذه الحالات، وصوت المرأة لم يعد عيباً ولا عورة.
ليكن التضامن لوحة يكتبها كل مغربي ومغربية، لأن حقوق النساء ليست معركة خاصة…
بل مشروع مجتمع يستحق أن نحتفي به جميعاً وفق الرؤية السديدة لمولانا صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله.
مملكتنا.م.ش.س/و.م.ع