عبدالرحمن اليوسفي…لماذا لم يفتح كل خزائنه المليئة بالأسرار؟
عبدالرحمن اليوسفي الإنسان قبل أن يكون سياسيا وحقوقيا، اكتوى بزمان الأحداث ومكانها، حلوها ومرها.
نبض الحياة يتجدد عند اليوسفي وتنشط ذاكرته وهو يتحدث لأول مرة في مذكراته عن والدته. إذ عندما كان اليوسفي في المنفى استقبل الملك الراحل الحسن الثاني والدته في نهاية السبعينات من القرن الماضي، وقبل انصرافها سألها الملك الراحل إن كانت في حاجة إلى أي شيء، لتجيبه بلهجتها الطنجاوية “بغيت وْلِيدي!”. فأجابها الملك “يمكن لابنك أن يعود إلى بلاده متى يشاء، والوطن سيرحب به”.

جاء في كتاب “شهادات وتأملات” الصادر مؤخرا، للراحل عبدالرحيم بوعبيد، أنه في يوم ما من سنة 1959 قال الملك الحسن الثاني لعبدالرحيم بوعبيد رفيق اليوسفي “لربما ستركب القطار وهو يسير، في يوم من الأيام. فمن يدري؟”. والحقيقة أن اليوسفي هو من ركب وسار حتى آخر محطة سياسية بالنسبة إليه، عندما اعتزل في العام 2002.خيبات الأمل يمكنها أن تصنع منافسة بين الأمر الواقع والطموح في غد أكثر عدالة وتميزا، هكذا كان يفكر اليوسفي الذي تمرس في العمل السياسي والصحافة والنضال المسلح وكواليس المفاوضات مع الفرنسيين وبعدها مع كافة أطياف المشهد السياسي بعد الاستقلال.كانت المرة الأولى التي يدلف فيها إلى القصر الملكي بالرباط، في مارس عام 1961 عندما تلقى سلفه على رأس الحزب عبدالرحيم بوعبيد، دعوة من القصر لمناقشة عرض اليساريين واحتمال مشاركتهم في الحكومة، وكان على بوعبيد أن يقنع اليوسفي ومحمد البصري ليكونا ضمن الوفد، ليتم بعدها استدعاء اليوسفي إلى القصر بعد ثلاثين سنة لحضور جلسة عمل بشأن مذكرة الإصلاحات السياسية والدستورية المعروفة باسم «مذكرة يونيو».وحول معرفته بالعاهل المغربي الملك محمد السادس يقول اليوسفي، “تعرفت على صاحب الجلالة الملك مـحمد بن الحسن يوم فاتح مايو 1992، لما دعانا آنذاك الملك الراحل، لحضور أول اجتماع لأحزاب الكتلة الخاص بمناقشة عمل لجنة التحكيم للتحضير للانتخابات. وقدّمني صاحب الجلالة إلى ولي العهد وضيفه، وأذكر أنه قدمني لهما مازحا، كما قلت سابقا، بقوله: هذا أكبر مهربي السلاح. وحكى لهم كيف أنه وعلى الرغم من أنني كنت مريضا، إلا أنني كنت أحمل السلاح تحت لباسي في عهد المقاومة، من أجل عودة الملك الشرعي للبلاد”.مرونة وواقعية
سيشهد اليوسفي انتقال العرش من ملك إلى ملك في صيف 1999، بعد عام على رئاسته حكومة مكونة من 41 وزيرا يتفرقون على ستة أحزاب بعد تكليفه من طرف الملك الحسن الثاني بتشكيلها.مرونة وواقعية واستقلالية في الرأي مع تأمل عميق وسعة صدر ومراقبة حثيثة لاتجاه ريح موازين القوى داخليا وخارجيا، كلها عناصر ساهمت في طبخ قرار المشاركة في حكومة كان الكل يظنها بعيدة المنال لكن إرهاصاتها كانت بادية الملامح في بداية التسعينات من القرن الماضي لتكتمل فصول حكاية اليوسفي بين المعارضة والحكم.

لم تنقطع صلة اليوسفي بالعاهل المغربي بل اعترف الوزير الأول الأسبق أن الملك محمد السادس كلفه بمهمات خارجية مرتبطة بملف الصحراء، وكانت المرة الأخيرة التي طلب رأيه فيها لدى تشكيل الحكومة التي كان يقودها عبدالإله بن كيران أمين عام حزب العدالة والتنمية في سنة 2011.
كانت تحت يد اليوسفي كرجل دولة وسياسي مادة أرشيفية مهمة ومعلومات دقيقة عن شخصيات وأحداث وأماكن عاشها وعايش معظم الفاعلين فيها، ولن يتم الكشف عنها والبوح بها كلها وإن على شكل ومضة لاعتبارات متعددة منها الذاتي والموضوعي.
بحكم القرب وتواتر المعطيات المؤكدة حول اختطاف المهدي بن بركة رفيق درب اليوسفي قال هذا الأخير إن بوعبيد أعلن من خلال جريدة “لوفيغارو” الفرنسية أن “من كانوا وراء هذا الاختفاء أرادوا منع حل ديمقراطي يشرف عليه الملك الحسن الثاني”.
ويضيف اليوسفي أنه “حين تم اختطاف المهدي بن بركة بباريس، ثارت ردود فعل عدة. وظل الحادث يشغل الرأي العام الوطني والدولي، حيث لا يزال مصير هذا القائد المغربي مجهولا إلى الآن”.
واسترسل اليوسفي في سرد الوقائع بعد اختفاء بن بركة في العام 1965 بباريس، قائلا إن الجنرال ديغول، رئيس الجمهورية الفرنسية، اتهم في ندوة صحافية مباشرة وزير الداخلية المغربي، آنذاك الجنرال محمد أوفقير، بالضلوع في العملية.
اللغز يبقى عصيا على الفهم بالنسبة إلى اليوسفي، الذي يؤكد أن “الدولة الفرنسية لا تزال متمسكة بسر الدفاع الوطني كحجة لعدم رفع السرية عن الوثائق التي تهم هذا الملف، بالرغم من أنها قامت مرتين بالكشف عن بعضها. واتضح في الواقع أنها كشفت فقط عن وثائق غير ذات أهمية، ولا يزال المنع يطال الوثائق الأساسية التي من شأنها الكشف عن المستور”.
ويؤكد اليوسفي أيضا مشاركة أطراف دولية في ارتكاب هذه الجريمة، وأشار إلى تورط عناصر “الموساد” في قضية المهدي بن بركة، موردا أنه بعد مرور سنة على عملية الاختطاف، وبالضبط في ديسمبر 1966، نشرت إحدى الصحف الإسرائيلية تحقيقا، أنجزه الصحافيان شيمال مور ومكسيم غيلان، أكدا فيه تورط جهاز الاستخبارات ذاته في اختطاف بن بركة، إلى جانب أطراف أخرى.
حظي اليوسفي في يوليو 2016 بتكريم من طرف الملك محمد السادس، حينما أطلق اسم “شارع عبدالرحمن اليوسفي” على شارع السلام سابقا وسط مدينة طنجة. ووضع العاهل المغربي قبلة على رأسه عندما كان يتلقى العلاج في أحد مستشفيات الرباط في أكتوبر 2016، وهي إشارات على تقدير الرجل الذي بصم تاريخ المغرب الحديث وبقي محتفظا بنفس الاحترام إلى الآن، واعترافا بخدمته للصالح العام.
لكن هل استطاع اليوسفي البوح في “أحاديث في ما جرى” بكل ما كان حقا؟ أم فقط ما كان مناسبا له وللكثيرين الذين يعيشون اللحظة الآنية؟ لقد كان اليوسفي غير صدامي مقارنة مع الفقيه البصري والمهدي بن بركة إذ كان يغلب الواقعية على الطوباوية، مرنا في تناوله للقضايا الخلافية ومتمسكا في الآن ذاته بمبادئ حقوق الإنسان وبميزان العدالة.
مملكتنـــــــــــــــــــــــــا.م.ش.س