ينتقل التراث الثقافي اللامادي من جيل إلى آخر، ويقع بعثه من جديد من قبل الجماعات والمجموعات طبقا لبيئتهم وتفاعلهم مع الطبيعة ومع تاريخهم، ليعطيهم شعورا بالهوية والاستمرارية، لذلك يحاول المغرب المساهمة في تطوير احترام التنوع الثقافي والإبداع الإنساني من خلال الحفاظ على الاحتفالات الأمازيغية المتعلقة بالجلود والأقنعة المتعددة.
إختتمت فعاليات الدورة الرابعة لكرنفال “بيلماون بودماون” (كرنفال الجلود والأقنعة المتعددة) التي انطلقت ببلدة إنزكان بأكادير ، جنوب غرب المغرب.
أحمد صابر المدير العام للكرنفال، قال إن “الاحتفال يمتد على مسافة 5 كيلومترات ويستقطب قرابة 4 آلاف مشارك يتوزعون على أكثر من 45 فرقة منتسبة لهيئات مدينة وأحياء بالمنطقة”.
وأضاف أن الكرنفال أصبح “فضاء للترويح عن النفس والخروج عن المألوف وكسر التابوهات وإنتاج التصورات في شكل هزلي عن الأنا والآخر (إنسانا كان أو حيوانا)”.
ولفت صابر إلى أن “دورة هذا العام عكست شعاره من أجل تصنيفه تراثا لاماديا لدى منظمة اليونيسكو، والتي ما يزال أهالي جنوب غرب المغرب يحافظون على عادة بيلماون (بوجلود) لقرون”.
وأوضح أن “ما يفوق 210 آلاف متفرج واكبوا فعالياته التي تواصلت حتى ليلة أمس الأحد، وهو رقم قياسي لم تشهده الدورات الثلاث السابقة”.
ويقول عمر بلقايد (39 عاما)، أحد أعضاء بيلماون، إن “إخفاء الملامح الطبيعية يُثير الفُرجة والغرابة، ويجعل الاحتفال يتميز ويتفرد في قالب إبداعي فرجوي يمتزج فيه ما هو أصيل بما هو عصري، لباسا وحركة ورقصا”.
وأشار عمر إلى أنهم يحاولون الحفاظ على هذه الطقوس من الاندثار، على اعتبار أن أصولها العريقة تعود لما قبل الإسلام، وفق ما يقوله مؤرخون.
وتبذل كل مجموعة من الشباب قصارى جهدها لمساعدة بعضهم البعض في ضم ولف الأنسجة الجلدية التي أعدت سلفا بشكل دقيق، حيث يتجاوز كساء فرد واحد أكثر من خمسة جلود بحسب الطول والبنية.
والمؤكد وفق ما تروي الذاكرة الشعبية أن مظاهر الاحتفال كانت فيما مضى يؤثثها صراخ الأطفال والنساء الممزوج بملامح الدهشة والانبهار، حيث يسعى الجميع إلى لمس حوافر الأضحية بأيديهم أو إلى وضعها على أكتافهم.
وربما كان هذا المشهد بالذات هو ما يجلب المحتفين المقنعين والمتنكرين والمتفرجين على حد سواء إلى “أسايس” (أي الساحة الكبيرة)، ليتابع الجميع عروضا ورقصات فنية على إيقاع أهازيج شعبية.
وقال الحسين بويعقوبي الباحث الأنثروبولوجي المغربي، إن “بيلماون (صاحب الجلود) شكل فرجوي شعبي ذكوري يعتمد على التنكر في جلد الماعز أو الغنم من طرف مجموعة من الشبان ترافقهم مجموعة أخرى تعتمد على استعمال الأقنعة وأشكال تنكرية مختلفة أخرى لتجسيد مختلف الأدوار والفئات والمهن الموجودة في المجتمع المغربي”.
وأوضح بويعقوبي، أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة ابن زهر جنوب غربي المغرب، أن “هذه الممارسة الثقافية تعكس سعي الإنسان الأمازيغي إلى الحفاظ على هذا الطقس، والذي تتقاسمه شعوب شمال أفريقيا وجزر الكناري بمسميات مختلفة”. وشدد على أن “الظاهرة تحمل أسماء عديدة حسب مناطق البلاد، سواء كانت ناطقة بالأمازيغية أو بالعربية في مختلف مناطق شمال أفريقيا”.
ومن هذه التسميات نجد “بيلماون” و”بوجلود” و”هرما” و”تمعزات” في سوس (جنوب)، وفي الأطلس المتوسط (وسط) نجد “بو يسليخن”، وفي الريف (شمال) “با الشيخ”.
وتابع “كما نجد لدى الناطقين بالعربية “بولبطاين” أو “سبع بطاين” نسبة إلى عدد الجلود اللازمة لكساء شخص واحد”.
وذكر أن هذه العادة انقرضت في منطقة القبائل بالجزائر منذ ثلاثينات القرن الماضي، مضيفا “نجد أسماء ‘بوعفيف’ و ‘بابا الحاج’ و’أمغار أوقروش”.
ويرى بويعقوبي أن “اعتقادات دينية لدى الأمازيغ، تقول إن بيلماون يستجلب بركة ما أو حسن طالع أو يطرد مكروها أو يحقق أمنية أو يجلب رزقا أو يزوج عازبة أو يداوي سقما، حينما يلمس طالب البركة ‘إيفنزي ن بيلماون’ حافر الكبش من قبل أحد أعضاء بيلماون”.
ورجح الباحث أن “يكون أصل هذه العادة مرتبطا بمعتقدات قديمة في شمال أفريقيا تقدس الكبش، وإشكالية الأصل تطرح بالنسبة إلى كل الممارسات التنكرية المسماة ‘كرنفال’ والموجودة في كل المجتمعات الإنسانية”.
وخلص إلى أن “ممارسة بيلماون ترتبط بتمثلات الكبش لدى الأمازيغ ككائن مقدس قبل الإسلام جعلته يحظى بنفس القداسة في الإسلام من خلال ذبحه في الصباح، تطبيقا للشريعة، وإحيائه بعد الزوال من خلال طقوس بيلماون، وهي طقوس يحضر فيها المقدس بقوة”.
وعن أصل هذه الممارسة يقر بويعقوبي بأن “لا أحد يستطيع الجزم بأصولها، لكن المتفق عليه أنها ممارسة قديمة جدا قد تعود لما قبل وصول الأديان السماوية لشمال أفريقيا، وتأقلمت معها فوصلتنا اليوم رغم انقراضها في العديد من المناطق الأخرى”.
وبحسب الباحث بويعقوبي، يقوم بيلماون (مرتدي الجلود) بالتجول في الدوار أو أحياء المدن المغربية بمساعدة فرق موسيقية شعبية لخلق البهجة والسرور في صفوف المتفرجين، وفي نفس الوقت يخلق الذعر والخوف خاصة في صفوف الأطفال والنساء.
وعن الدراسات العلمية حول الظاهرة، قال بويعقوبي، إن الباحثين الفرنسيين أنجزوا دراسات خلال تواجدهم بشمال أفريقيا ما بين 1830 و1962، في إطار سعيهم لفهم مجتمعات شمال أفريقيا وعلى رأسهم الباحث الفرنسي أوكيست موليراس (أواخر القرن 19) في كتابه المترجم إلى العربية “المغرب المجهول”.
وأكد أوكيست في كتابه أن “هذه العادة التي يمارسها شبان مغاربة في القرى، يخرجون على شكل مجموعات تتعدى 10 أشخاص، يطوفون في الدواوير والمداشر، فيجمعون البيض واللحم والسكر .
مملكتنا.م.ش.س/عرب