فاطمة إسم وسم التراث والمعتقدات الشعبية العربية
- فاطمة اسم ابنة الرسول محمّد (ص) لم يسم التاريخ العربي الإسلامي الرسمي فحسب، وإنّما تجاوزه إلى وسم التراث والمعتقدات الشعبيّة في الكثير من أصقاع العالم العربي مترامية الأطراف وصار مصدرا خصبا ينهل منه المخيال الاجتماعي، وتحوّل من مجرّد اسم يُطلق على مولودة أنثى من قبيل التبرّك عسى أن تكون طالع خير على عائلتها وعلامة انتماء على ترسّخها في الملّة الإسلاميّة إلى رمز متشعّب الأبعاد ومكثّف الدلالات.
اسم فاطمة هو محلّ إجماع على خلاف الكثير من أسماء الإناث والذكور من قِبل الغالبيّة العظمى من المسلمين على اختلاف مذاهبهم. والطريف في الأمر أنّ لدى مسلمي أفريقيا في السنغال ومالي ونيجر وبوركينافاسو يُطلق اسم فاطمة على الطفلة تارة كما هو في العربيّة وطورا في صيغة الاختصار العاطفي من قبيل التربيج “فاطو” أو بالإبدال تماما “بِنْتا” (أي بنت الرسول).
أطلق على الدولة، التي تأسّست في تونس سنة 279 هـجري ثم انتقلت إلى مصر وبنت القاهرة سنة 358 هـجري واتخذت من الإسماعيليّة الباطنيّة مذهبا لها، صفة الفاطميّة نسبة إلى فاطمة وأطلق على مؤسّسيها وولاة الأمر فيها اسم الفاطميين.
لكن بعيدا عن المذهبيّة التي اقترنت بخاصة المسلمين وعلمائهم من النخبة العالمة والمتفقّهة في الدين والمختلفة في تأويل النصوص المقدّسة وأحداث التاريخ المؤسّسة للأمّة، اقترن اسم فاطمة لدى عامة المسلمين بعاداتهم البسيطة وحياتهم اليوميّة وبتمثّلاتهم لأنفسهم وللآخر ولمحيطهم الطبيعي.
من ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، تسمية قوس قزح بحزام فاطمة في الجنوب التونسي كناية عن الحزام الذي تشدّ به المرأة البدويّة لحافها أو رداءها المعروف بـ”الملحفة” أو “الملية”، ويكون في العادة عبارة عن خيوط مصنوعة من صوف الأغنام في مسعى لا واع يتمثّل في إضفاء صيغة القداسة على العالم الطبيعي واستعارة كلّ ما هو جميل ومبهر ولافت للأنظار في الطبيعة لشخصيات تحتلّ مكانة متميّزة في تاريخ شعب أو أمّة وفي ذاكرتها الجماعيّة.
لا نجد أفضل من “خبز السبع فاطمات” رمزا ليس فقط للحماية من الشر، بل أكثر من ذلك رمزا للخلاص والتحرر من كل مكروه
غير أنّ أشهر ما نُسب إلى فاطمة الزهراء هو “الخُمسة” كما تُسمّى في تونس أو “الخميسة” في مصر المعروفة كذلك بيد فاطمة الموجودة في مناطق مختلفة من العالم العربي في مغربه ومشرقه، وهي عبارة عن كفّ متلاصقة الأصابع، تُصنع في العادة من الذهب أو الفضّة وقلّما تُصنع من مواد معدنيّة أخرى، تنظمها الفتيات والنساء في العادة في قلادة ويضعنها في رقابهنّ وقد يذهبن إلى استعمالها كأقراط في أذانهنّ أو يلصقنها في حاملة المفاتيح التي تأخذها المرأة معها خارج البيت، بما في ذلك مفتاح سيارتها، اعتقادا منها بأنّها عند قيادتها تعمل يد فاطمة على وقايتها من حوادث الطرقات وأهوال الطريق.
كما بدأت في السنوات الأخيرة تُسجّل حضورها في أدوات أخرى لزينة المرأة، فيمكن أن تُعلّق في رقبة الطفل عند الختان وتُرسم على واجهات المنازل التقليدية وتُنقش على أبوابها الخارجيّة حتّى تكون بادية للعيان وللناظرين.
يد فاطمة إذن تميمة للحماية من العين الشرّيرة الحسود. وهي على الأرجح من الموروثات العقائديّة القديمة عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى قبل الإسلام التي واصلت حضورها مع نشأة الدين الجديد ولبست لبوسه مثلها مثل معتقدات أخرى.
فاليهود العرب يطلقون على الخمسة أو الخميسة “كفّ موسى” كما يطلق عليها نصارى بلاد الشام بكفّ مريم، وقد يكون هؤلاء جميعا ورثوها دينا عن دين من الحضارات الشرقية القديمة السومريّة والأكاديّة التي كانت تُعرف عندهم بكفّ عشتار أو كفّ إنانا.
لكن اللّافت للانتباه هو أنّه لم يقع الاقتصار على استعمال اسم فاطمة في الحليّ واللباس وزخرفة العمارة والنقش على الأبواب وإنّما تعدّاه إلى المطبخ ومائدة الطعام، “فصوابع فاطمة” أي “أصابع فاطمة” أكلة تونسيّة حضريّة أصيلة تُنسب إلى ما يُسمّى “البِلْديّة”، وهم الذين يُعرّفون بأنّهم سكّان تونس الحاضرة الأصليون، وهي عبارة عن لفيف من العجين المرقّق يُحشى بالبقدونس والبطاطس المطبوخة والمسحوقة ويُخلط بلحم سمك التونا أو لمن شاء بلحم الضأن أو البقر أو الدجاج تًضاف إليه بعض التوابل والملح قبل أن يُقلى في الزيت ويُقدّم في فاتحة الطعام عشاء أو غداء.
إسم فاطمة إقترن لدى عامة المسلمين بعاداتهم البسيطة وحياتهم اليومية وبتمثلاتهم لأنفسهم وللآخر
بيد أنّه فيما يتعلّق بالأكل لا نجد أفضل من “خبز السبع فاطمات” رمزا ليس فقط للحماية من الشرّ والمكروه، بل أكثر من ذلك رمزا للخلاص والتحرّر من كلّ مكروه أو محنة يتردّى فيها المرء خلال رحلته الوجوديّة المليئة بالعثرات والانكسارات.
يروي الكاتب الليبي عمر أبو القاسم الكيكلي في كتابه “سجنيات” (ص45-47) الذي تحدث فيه بأسلوب لا يخلو من المرح والدعابة عن تجربته كسجين رأي في ليبيا في عصر القذافي قصّته مع “خبزة السبع فاطمات” التي عملت والدته وزوجة عمّه التي تُدعى “العاقلة” على إعدادها قبل تزويده بها في السجن عند زيارتهما له.
وعانت السيدة العاقلة الأمرّين للعثور على سبع نساء يُدعون فاطمة، لأنّه كما أعلمت كاتبنا اسم فاطمة غير متوفّر بكثرة في عائلتها وعشيرتها، وبعد مشقّة وجدت ضالتها.
كانت الفاطمات يخبزن الخبز كما أخبرته وهن يدعون اللّه للتفريج عن كربته وتحريره. شجّعته أمّه على تناول الخبزة كاملة فاشترط عليها مازحا أن يتقاسمها مع أقرانه لأنّه لا يريد أن يخرج من السجن إلّا معهم.
لخصت والدة عمر وهي تحفّزه على أكلها هذا المعتقد قائلة “يا وليدي (يا بنيّ) الناس تقول من يقع في ورطة، ويأكل خبزة خبزتها سبع فاطمات يفرج عليه ربّي، أسبار يا وليدي وعقايد ناس وبالك ربّي يديرها طريق، أي للخلاص”.
قد يعسر على المرء اليوم العثور في قرية واحدة أو حيّ واحد من المدن العربيّة على سبع فاطمات بالتمام والكمال ليخبزن له خبز النجاة والحرّية، ولكنه لن يعاني للعثور على فاطمة واسمها و”ماركتها” في الحليّ والطعام، فهي مترسخة بترسّخ اسمها في الذاكرة الجماعيّة وفي المتخيّل الشعبي العربي الإسلامي.
د. محمد الجويلي
مملكتنا.م.ش.س