“الصواب” البارد

الخميس 25 يناير 2024 - 11:50

الأجيال التي ولدت بعد سنة 2000 لا تعرف الرسالة الورقية والظرف وطابع البريد، لأنها فتحت عينيها على الرسالة الهاتفية ثم الرسالة عبر الحاسوب ثم تطبيقات الهواتف الذكية التي تمنح تراسلا مجانيا. وقد أصبح المتراسِلون في غنىً حتى عن التراسل إذا رغبوا في ذلك، يستطيعون الاتصال عبر الهاتف المجاني أو التناظر بالصورة والصوت، وانمحى بذلك الشوق والترقب والانتظار.

كنا في الزمن الجميل نكتب الرسالة بالقلم، مستحضرين أحباءنا المرسل إليهم، متذكرين المشترك من الزمن بيننا، ملحّين في تلقي آخر أخبارهم بصدق أو بنفاق، لا يهم. كانت الرسالة تأخذ وقتها للوصول إلى العنوان، أسبوع أو أكثر ثم بعد ذلك انتظار أريحية وكرم المرسل إليه في الجود بردّ كافٍ شافٍ، لتلقُّفِ الرد بلهفة عجيبة، انفراديا أو جماعيا.

كانت أكثر الرسائل إثارة لدقات القلوب تلك التي ترقص بين العشاق في جميع أحوالهم، إيجابية أو سلبية أو رمادية، لا هي نعم ولا هي لا. وكان العاشقون لا يثقون في قدرة أسلوبهم فيشترون كتبا صغيرة تعلمهم كيف يؤثرون في القلوب والأهواء، ماذا يُكتَب في المقدمة وكيف يَحسُن التخلص إلى الموضوع قبل خاتمة ترن في القلب والدماغ.

كان هناك احترام للمرسَل إليه من خلال تشريفه بكلام موجه إلى شخصه أو إلى محيطه، وكان المرسِل يستدعي المشترك من الأحداث والأقوال وكأنه حاضر معه، ويستثير الذكريات القريبة والبعيدة، وكأن للعلاقة حرارة تمر عبر السطور، في التلقي والإرسال.

اليوم، يقوم المرسل بنسخ صورة لتهنئة بالعيد أو السنة الجديدة أو أي مناسبة، وما أكثر الصور المعززة بخطوط رائعة وبألوان مبهرة، ثم يرسلها لمرسلٍ إليهم، قد يتجاوزون المائة أو المائتين، ثم يعتقد أنه يمارس “الصواب” مع أحبابه أو أصدقائه، وأن ذلك سيزيد من محبة الآخر ويوطد معه العلاقة أكثر. وقد يرسل فيديو لجمعة مباركة أو حج مبرور أو دعاء شافٍ، متجاوزا جمود الصورة.

تعوّد الناس على هذا التراسل البارد، الخالي من الصدق، العاري من أي احترام للآخر، الذي لا يستحضره المرسِل ولا يفكر فيه ولا يفْرده بأي خصوصية، مجرد رقم وسط المئات، لا أحد يذكره ولا يُتعب دماغه باسترجاع المشترك من الزمن الماضي. وحتى “الزبناء” القدامى للرسالة الورقية تنكروا لها ومضوا يمارسون هذا التسطيح التراسلي الإلكتروني.

كيف تحس حين تأتيك صورة لتهنئة بعيد الأضحى من قريب أو صديق، وتكتشف أنها هي نفسها التي أرسلتها لأحبابك وأصدقائك قبل ساعات؟ المفروض ألا ترد عليها بمثلها ولكن بأحسن منها. إذا “أفقت بعيبك”، فتكتب رسالة ولو قصيرة، بأسلوبك للمرسل إليه، تذكر اسمه على الأقل. تجعله يطمئن على أنك تفكر فيه وتستحضره ولو بأقل الإشارات.

لم يسبق لي أن أرسلت رسالة مسكوكة مستنسخة لمن أحب، أرد على أحبابي وأصدقائي إذا خصّوني برسالتهم “الدافئة” نسبيا، وأُعرِض عن صورهم وفيديوهاتهم الباردة. وإذا عاتبني أحدهم أعدت عليه ما ذكرت في هذا المقال.

في هذا الزمن الغريب، تكلست وتجمدت العلاقات بين الناس، وأضحت مجرد نقرة تريد أن تنوب عن العواطف البشرية الصادقة الجياشة التي تربطنا ببشريتنا. هل فات وقت إصلاح عطب العلاقات الإنسانية؟ أم أن هناك طمعا في رِدّة ما إلى عاداتنا القديمة الجميلة التي ضيعناها، أضخمها وأجملها الاحتفال الجماعي في المسرح أو السينما وأقلها الجلسة الأسرية المسائية الدافئة، بعيدا عن برودة التلفزيون والهاتف والحاسوب؟

Loading

مقالات ذات صلة

الجمعة 28 يونيو 2024 - 21:09

من هم أعداء المرأة المغربية ؟

الثلاثاء 1 أغسطس 2023 - 19:56

السبت 24 سبتمبر 2022 - 13:11