المغرب بلد مصدر للخضر والفواكه، أمر بات واقعا، ملايين الأطنان من أنواع مختلفة تغادر البلاد صوب دول أوروبية أو إفريقية وغيرها، في مقابل أزمة الجفاف لسنوات متتالية التي باتت مؤكدة هي الأخرى. جفت سدود واستنزفت مياه جوفية، وأصابع الاتهام تشير إلى سياسة فلاحية أعطت الأولوية لكل ما تطلبه الأسواق الأجنبية.
تتعالى الأصوات التي تنتقد السياسة الفلاحية التي شهدتها البلاد طيلة السنوات الماضية، ومن بينها نجيب أقصبي، الخبير الاقتصادي، الذي أكد أن “المغرب اليوم يصدر الماء عبر منتجاته الفلاحية، وهو أمر خطير جدا وينهك المخزون من هذا المورد الطبيعي الحيوي، ويكرس التبعية الاقتصادية”.
ونبه أقصبي إلى أن “أي منتج، سواء الطماطم أو الأفوكادو، مرورا بالبطيخ الأحمر والفراولة، يستهلك كميات مياه غير معقولة، إذ بحساب بسيط فإن استهلاك هكتار من هذه المنتجات يماثل عشر مرات ما تستهلكه مدينة، ومثلا 15 ألف هكتار من زراعة البطيخ الأحمر بزاكورة تمثل ما يقارب 10 مرات ما تستهلكه مدينة زاكورة كلها”.
الطماطم تصدر 21 مليار لتر من الماء
مقابل ما يقال تتطور صادرات القطاع الفلاحي والصناعات الغذائية، إذ تجاوزت قيمتها في نهاية شهر يناير من العام الماضي 50 مليار درهم كرقم معاملات. وتفيد معطيات الاتحاد الأوروبي بأن قيمة مجموع الصادرات المغربية من الخضر والفواكه صوب أوروبا بلغت أكثر من 1.8 مليار يورو إلى حدود شهر شتنبر من العام الماضي. وتتصدر الطماطم قائمة المنتجات الفلاحية الموجهة للخارج.
اختارت هسبريس تركيز تحليلها في أول الأمر على هذا المنتج، وكميات الماء التي يتطلبها إنتاجه. البداية كانت من منطقة اشتوكة أيت باها نواحي أكادير، هناك حيث التقينا ياسين بلحرش، الفلاح الذي أكد أن المنطقة هي المزود الرئيسي للأسواق الوطنية في ما يخص الطماطم، خاصة في أوقات خارج موسم الصيف، وأشار خلال لقائه بهسبريس إلى أن زراعة هكتار واحد من الطماطم تحتاج ما بين 20 إلى 25 لترا مكعبا من الماء، أي إنه في المتوسط لإنتاج كيلوغرام واحد من الطماطم يتم استهلاك من 25 حتى 30 لترا من الماء.
ووفق معطيات وزارة الفلاحة المغربية خلال الموسم الماضي فقد بلغت صادرات الطماطم أكثر من 700 ألف طن، أي بزيادة قدرها 4 بالمائة مقارنة مع الفترة الأسبق؛ فيما تطلب إنتاج هذه الكمية 21 مليار لتر من الماء.
وأكد بلحرش أن المنطقة تتوفر على ثلاثة مصادر للماء، الأول هو سد يوسف ابن تاشفين، والثاني هو المياه الجوفية الموجودة في الآبار، التي “اضطررنا مؤخرا للزيادة في عمقها للحصول على صبيب معقول”؛ ثم المصدر الثالث، وهو تحلية مياه البحر، مشيرا إلى أن المصدر الأخير ليس متاحا لكل فلاحي المنطقة، ناهيك عن غلائه، إذ تصل تكلفته إلى 5.20 درهم للتر الواحد، “وفي المقابل كانت تكلفة ماء السد هي 0.80 درهم للتر، أما تكلفة مياه الآبار فهي ما بين درهم ونصف ودرهمين للتر”.
على مدار السنوات صدرت البلاد كميات متزايدة من الطماطم، وفي المقابل عرف احتياطي سد يوسف ابن تاشفين الذي يسقي أهم مناطق الإنتاج تراجعا ملحوظا. وقد دقت هسبريس باب وزارة التجهيز والماء للتعرف على الوضعية المائية للبلاد، لكن الوزارة اختارت الصمت رغم عمق الأزمة.
لا فلاحة بدون تصدير
يؤكد المنتجون أن التصدير هو الذي يمكنهم من الاستمرار في نشاطهم. وفي هذا الإطار أوضح عبد العزيز المعناوي، رئيس جمعية اشتوكة للمنتجين الفلاحيين، أن الهكتار الواحد من الطماطم يكلف ما بين 70 و90 مليون سنتيم، فيما تواجه الفلاحين عدة مشاكل وتحديات حتى تحصيل المنتج، وهو معرض لندرة المياه والتغيرات المناخية وغيرها.
وقال المعناوي خلال لقائه بهسبريس إن “المنتج المغربي بات اليوم ينافس منتج دول كبرى مثل إسبانيا وهولندا وألمانيا وغيرها، وهو ما يضمن استمرارية المجال الفلاحي”، واعتبر أن “التصدير هو الذي يضمن استمرارية المجال الفلاحي ويحافظ على وظائف العاملين به، وبالتالي ضمان أمن غذائي وسلم اجتماعي”.
وأضاف المتحدث ذاته أنه “عند الحديث عن تصدير الماء لابد من وضع مقارنة شاملة، وليس فقط التركيز على الخضر، حتى لا يتم تمرير أي نوع من المغالطات”، مردفا: “فمثلا كيلوغرام اللحم يحتاج ما بين 200 و300 لتر من الماء، أي كمية أكثر من الطماطم”.
ورغم أن الطماطم تحتل الرتبة الأولى على كفة التصدير إلا أنها ليست أكثر المنتجات الفلاحية المستهلكة للماء، فالخبراء يعددون أسماء منتجات أخرى تتطلب مئات اللترات من هذه المادة الحيوية لإنتاج كيلوغرام واحد.
وقال يوسف الشرحابيلي، مهندس زراعي وخبير في إنتاج الخضر والفواكه، إن “بعض الخضر والفواكه تستهلك الماء بشكل قليل، مثل الطماطم والبطيخ الأحمر، لكن يقال إنها تستهلك الماء بشكل كبير، وعند الملاحظة نجد أنها لا تفوق 50 لترا في كل كيلوغرام، وفي المقابل هناك فواكه أخرى مثل الأفوكا أو الموز تستهلك أكثر من 300 لتر في الكيلوغرام، إلى جانب الحوامض التي تستهلك أكثر من 250 أو 300 لتر من الماء”.
وأضاف الشرحابيلي أنه بالنسبة للأفوكادو تتم زراعته في مناطق الغرب، حيث مازالت الفرشاة المائية متوفرة، وبالتالي حتى تكلفة الإنتاج تكون أقل.
تزايد صادرات الأفوكادو
ضمن مسار البحث عن أكثر المنتجات الفلاحية استهلاكا للماء، دائما ما يتكرر ذكر الأفوكادو، هذا المنتج الذي بدأت صادراته ترتفع سنة بعد الأخرى، وهو ما دفعنا إلى زيارة صاحب ضيعة فلاحية تذهب جميع منتجاتها للتصدير، وهو محمد الدرقاوي، مهندس زراعي ومنتج للأفوكادو، ينفي أن تكون هذه الفاكهة مسؤولة عن استنزاف الماء.
وقال الدرقاوي: “نحن في هذه الضيعة الفلاحية نقوم بالسقي لمدة ست ساعات في اليوم، خلال الفترة الممتدة من أواخر مارس حتى أكتوبر، ثم بعدها نكتفي بالسقي مرة في الأسبوع أو مرة في 15 يوما، لأنه في فصل الشتاء لا حاجة للسقي، لأن الشجرة غير منتجة في هذه الحالة”.
وقال المهندس الزراعي إنه يستخرج حوالي 30 طنا من الماء في الساعة يوميا من البئر المتواجد وسط الضيعة، وبالتالي يستعمل ما يقارب 7000 أو 7500 متر مكعب من الماء للهكتار دون احتساب التساقطات المطرية، وهو ما يمكنه من الحصول على محصول 15 طنا من الأفوكادو في الهكتار الواحد.
وحطمت صادرات الأفوكادو المغربية الأرقام القياسية لحجم المبيعات لعدة مواسم متتالية، إذ تضاعف إجمالي هذه الصادرات أربع مرات في السنوات الست الماضية، وأصبح المغرب تاسع أكبر مصدر لهذه الفاكهة في العالم، وصدر السنة الماضية أزيد من 45 ألف طن؛ كمية يتطلب إنتاجها 22 مليونا و500 ألف متر مكعب من الماء.
لكن الدرقاوي ينفي أن تكون الأفوكادو مسؤولة عن استنزاف الفرشاة المائية، قائلا: “في السنة الماضية 2023 صدر المغرب تقريبا 40 ألف طن، أي ما يعادل 80 مليون أورو، والكمية المستهلكة من الماء تعادل ما بين 57 أو 60 يوما من استهلاك ساكنة الدار البيضاء”.
استيراد 9 مليارات متر مكعب ماء
من الضيعة انتقلنا إلى وزارة الفلاحة، التي تؤكد بدورها أن أزمة الماء قائمة منذ سنوات، وأن توالي سنوات الجفاف زاد الطين بلة، لكن التصدير بعيد عن الاتهام في نظرها.
وقال محمد صديقي، وزير الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، إن “ما يقال عن كون المغرب يصدر الماء هو أمر غير صحيح، ويجب النظر للموضوع من زاوية الأرقام”، وزاد معلقا: “يجب أن نرى ماذا نصدر وماذا نستورد”.
وقال صديقي ضمن لقاء مع هسبريس إن “كل ما يصدره المغرب من الماء يمثل فقط 5 بالمائة من إجمالي ما يتم استيراده”، وأردف موضحا: “مثلا في سنة عادية نستورد من القمح والمواد المصنعة الفلاحية وغيرها ما يعادل 9 مليارات متر مكعب من الماء، في حين كل ما نصدره لا
يتعدى 500 مليون متر مكعب”.
وتابع الوزير ذاته بأن “التنمية الفلاحية مبنية على توازنات السيادة الغذائية من أجل تمويل السوق الداخلي وكذلك الربح الذي يعود على الفلاح وتأثيره على اليد العاملة”، مشددا على أن “التصدير أمر ضروري، لكن وفق معادلة”، ومتحدثا عما أسماه “تثمين المتر المكعب المصدر”.
وشرح المسؤول الحكومي: “يجب أن نعرف ماذا نستفيد من المتر المكعب من الماء المصدر، مثلا كم يشغل من اليد العاملة؟ وكم يوفر في ما يرتبط بتموين السوق الداخلية؟”، واعتبر أن “المنتج من أجل توفير إنتاجات مهمة لا بد له من استثمارات شخصية، إذ يجب أن يرفع من مردوديته في الهكتار، ويجب أن تكون الأثمان التي يبيع بها توفر له ربحا وإلا لن يستمر في إنتاجه”.
وتابع صديقي: “حينما نتحدث عن المعادلة فأثمان التصدير تكون أعلى من أثمان السوق الداخلي التي يجب أن تتناسب مع القدرة الشرائية للمواطن، وبالتالي فالمنتج يبني ربحه على ما يبيعه في الأسواق الخارجية والداخلية”، مؤكدا أن الأفوكادو هي من الفواكه المستهلكة للماء، لكنه في المقابل اعتبر أن مساحتها تبقى صغيرة، إذ “تتوفر المملكة على 10 آلاف هكتار من الأراضي المزروعة بها من مجموع مليون و600 ألف هكتار لجل الأراضي الفلاحية ببلادنا”.
ويرفض المصدرون كذلك إلقاء اللوم على نشاطهم في تعميق أزمة الماء في البلاد، ويطالبون بحلول ناجعة تضمن استمرارهم، والحفاظ على مكانة المغرب في الأسواق الدولية.
الحسين أضرضور، رئيس الفيدرالية البيمهنية لمنتجي ومصدّري الخضر والفواكه بالمغرب، قال إن التعامل مع الإشكال يضم جانبا سياسيا، معتبرا أنه يجب التفكير في تقوية التصدير وإيجاد حلول ناجعة لأزمة الماء.
وأضاف أضرضور في حديثه مع هسبريس: “ليس المطلوب منع التصدير، بل تجب تقويته، لأنه يجب أن نأخذ بعين الاعتبار اليد العاملة التي يتم توظيفها من خلاله، التي يجب التفكير في بديل لها في حال توقيف التصدير، خاصة أن الفلاحة تشغل أزيد من 30 بالمائة من اليد العاملة”، وتابع: “إذا أوقفنا التصدير ماذا سيكون مصير اليد العاملة؟ ومن أين ستأتي العملة الصعبة للبلاد؟ وكيف سنحافظ على أمن الشركات؟ وخصوصا في الجانب الاجتماعي، إذ ليس من السهل توقيف مصدر عيش عدد من الأسر في آن واحد، ناهيك عن الحديث عن النشاط الاقتصادي لجميع المناطق الفلاحية”.
وأردف المتحدث ذاته بأنه “في حال توقيف التصدير ستكون هناك أيضا انعكاسات على الأسواق التي بنى فيها المنتج المغربي سمعة لأزيد من 70 سنة”، مشددا على أنه يجب إيجاد الحلول الناجعة.
وترفض وزارة الفلاحة إلقاء اللوم أيضا على مخطط المغرب الأخضر، معتبرة أنه أول إستراتيجية تقوم بتثمين المتر المكعب من الماء، وتحد من ضياع هذه المادة الحيوية، مع دراسات تستهدف سقي مليون وستمائة ألف هكتار من الأراضي الفلاحية ببلادنا.
وقال صديقي إن “التغيرات المناخية التي شهدتها البلاد في الآونة الأخيرة كان وقعها صعبا، وأثرت بشكل عنيف على بلادنا”، وأوضح أنه “كانت هناك دورات جفاف، لكن ليس بهذه الحدة، فمنذ حوالي ثماني سنوات والبلاد لا تشهد أمطارا تعطينا سيولا كفيلة بملء السدود وتوفير الماء الكافي للفرشاة”، مؤكدا أنه “خلال حوالي ثماني سنوات كانت ثلاث منها فقط ممطرة، ولكن بشكل كاف فقط للغطاء النباتي، دون أن نشهد الثلوج التي تملأ السدود”، وزاد معلقا: “الوضع عنيف ولم يسبق أن شهدناه”.
كما شدد الوزير على أن “الماء يجب أن يتجدد، فإن ظل في السدود طيلة هذه السنوات سيتبخر”، وبالتالي ينبه إلى ضرورة البحث عن حلول حقيقية، و”عدم ربط الأمر بجزئيات غير صحيحة”.
وتابع المسؤول الحكومي ذاته بأن المطلوب اليوم هو التوجه نحو المياه المستدامة وغير المعتادة، كتحلية مياه البحر، ومعالجة المياه العادمة، مردفا: “اليوم هناك تقنيات جد متطورة وبلدان كثيرة تستعملها”.
وعلق المتحدث: “للأسف هناك تأخر، لأن الرؤية كانت خلال سنوات 2010 – 2012، وكان هناك مخطط للماء لكنه لم ينجز”، قبل أن يردف: “في عهد الوزير السابق رئيس الحكومة الحالي توجه بتعليمات ملكية إلى إنشاء محطة لتحلية المياه باشتوكة أيت باها، ثم سنة 2022 فتحنا السقي لـ 15 ألف هكتار مزروعة بالطماطم التي يتم تسويقها ببلادنا”، معلنا أن هناك برنامجا آخر بمدينة الداخلة هو في طور التنزيل، حيث سيتم في يونيو 2025 سقي 5000 هكتار من خلاله.
وأكد صديقي أن هناك دراسات تم إطلاقها في كل من طانطان وتيونيت والصويرة، وأيضا بجهة الشرق، منبها إلى أن “الهدف الذي جاءت به إستراتيجية الجيل الأخضر هو استهداف سقي ما بين 100 ألف حتى 120 ألف هكتار بالمياه المستدامة، أي المياه المحلاة التي ستمنحنا أساس السيادة الغذائية، لأنها مياه مستدامة”.
وتتوقع الدراسات أن إشكالية الماء ستتعمق أكثر فأكثر بفعل التغيرات المناخية، فحتى وإن وجدت حلول لمياه السقي ستستمر أزمة الماء الشروب. ويبقى العطش شبحا يهدد مستقبل المواطن المغربي.
مملكتنا.م.ش.س