العلامة ابن خلدون، وهو نتاج هذه الآفاق، الذي جال في أرجائها، واستبطن أحوال أهلها، وسبر أغوار ساكنتها، واستقرأ الثابت والمتحول عندها، كان أحذق علماء الحضارة الذين درسوا خصائص الشعوب والأمم، كما تبلور ذلك من خلال نظريته في العمران البشري التي ضمنها مقدمته المشهورة، وأملت عليه كتابة تاريخه الكبير المسمى ب “العبر”، وقد التفت بصفة أساسية إلى جملة من خصائص أهل المغرب والعوامل الكامنة وراءها، والبواعث التي أدت إلى سيادتها وفشوها في البلاد عبر العصور، واستمرارها فيه في الأقطار والأمصار.
ولعل أهم تلك الخصائص هي المتعلقة بمحورية القرآن الكريم في حياتهم الدينية ونظمهم التعليمية، ومالهم في حفظه وتحصيل علومه من النبوغ الذي لا يضاهيهم فيه شعب من شعوب ديار الإسلام، فحين يتحدث ابن خلدون في تاريخه عن هذه الساكنة، يلفت إلى هذه الخاصية فيقول في هذا السياق: “وأما إقامتهم لمراسم الشريعة، وأخذهم بأحكام الملة، ونصرهم لدين الله، فقد نقل عنهم من اتخاذ المعلمين لكتاب الله لصبيانهم، وتدارس القرآن بين أحيائهم، وتحكيم حملة الفقه في نوازلهم وقضاياهم… ما يدل على رسوخ إيمانهم، وصحة معتقداتهم، ومتين ديانتهم، التي كانت ملاكا لعزهم، ومقادا إلى سلطانهم وملكهم”
وحين تحدث في مقدمته عن مذاهبهم في التعليم الأولي، وإشكالية ترتيب الأولويات فيه قال: “اعلم أن تعليم الولدان القرآن شعار الدين، أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض فنون الأحاديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من الملكات”.
ثم يتطرق لتفصيل ما أجمله ويفضي إلى مراده بالذات، وهو تقرير ما لأهل المغرب في هذا الشأن من الخصوصيات فيقول: “فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، وأخذهم أثناء الدراسة بالرسم ومسائله، واختلاف حملة القرآن فيه، لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم، إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه، فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة، وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى البربر أمم المغرب في ولدانهم، إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة، وكذا مذهبهم في الكبير إذا راجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره”.
ثم يستخلص ابن خلدون نتيجة هذه الخاصية فيقول: “فهم لذلك على رسم القرآن وحفظه من سواهم” .
وهكذا ينتهي بنا ابن خلدون إلى إبراز أهم خصوصية للمغاربة في هذا المجال، وهي خصوصية عريقة في واقعنا التاريخي، وما يزال لها إلى اليوم في واقعنا الحاضر امتداد وشواهد تزكيها بحمد الله.
ولعله من واقع الحال المشهود عبر العصور، شاعت بين الأدباء هذه المقولة التي لا يدرى مصدرها، وهي تصف جانبا من خصائص الشعوب، وذلك في قول من قال: “نزل القرآن بلغة العرب، ففسره الفرس، وكتبه الترك، وقرأه المصريون، وحفظه المغاربة”. وقد أصاب قائلها المفصل فيما نسبه للمغاربة من هذه الخصوصية الفريدة.
مملكتنا .ش.س