فنان مغربي إستثنائي يتفنن في الجمع بين مختلف النوتات الموسيقية ويبدع في رسم لوحات فنية عديدة.
عندما تسأل فنانا من المشرق العربي، ذا خبرة واطلاع على تاريخ الفن والموسيقى، عن المغاربة، سرعان ما يتبادر إلى ذهنه صاحب الأغنية المغربية، سفيرة الإبداع المغاربي ورسوله “مرسول الحب، فين مشيتي وفين غبتي علينا”، العملاق عبدالوهاب الدوكالي، ابن مدينة فاس الحضارة والفن والمهرجانات في المغرب والعالم العربي وعبر الحدود.
الأجيال المعاصرة للعقود الأربعة الأخيرة عرفت أغنيته من جديد من خلال مغنية شابة “حسناء المغربية”، والتي ظهرت فجأة في عصر انتشار الأغنية العربية المصورة (الفيديو كليب) وهي تسير في شوارع المدينة المغربية، بابتسامتها السمراء الساحرة وقدّها المتمايل مع وترالأغنية.
وسرعان ما عادت تلك الكلمات وذلك اللحن إلى قلوب المستمعين من العرب، بل واستخدمها أكثر من مخرج هوليوودي حين يجري تصوير الأفلام في مدن المغرب السينمائية على غرار باقي أغاني الدوكالي.
* أصــــالــة الـــدوكــــالــــي
لا يمكن الحديث عن تاريخ الأغنية المغربية ومساراتها دون الحديث عن الموسيقار عبدالوهاب الدوكالي الذي عمل على إكساب هذه الأغنية أصالتها مع الانخراط في أفق العالمية، فالأغاني والألحان التي قدمها طيلة نصف قرن من الزمان تشهد بأنه قارع العديد من مؤلفي الألحان والمغنين الكبار أمثال عبدالوهاب وبليغ حمدي وفريد الأطرش، ولعل هذا ما حذا بـه إلى التوجـه نحو القاهـرة في ستينات القرن المنصرم ليلتقي بعمالقـة الفن العربي، إلا أنه سرعان ما عاد إلى مغـربه ليكوّن مدرسة جديدة ومختلفة تنبع مـن الأصالة المغاربية وتصب في مختلف أرجاء المعمورة، حيث سافر بالأغنية المغربية إلى مناطق عدة مـن العالم العربي وباقي مناطـق العالم ولم تحدّ من إشعاعـه الدارجـة المغربية.
ورغم صعوبة النطق باللهجة العربية المغربية إلا أن معظم ناطقي العربية في العالم العربي والعالم لا يلقون صعوبة في أداء أغانيه نظرا لرقة كلماتها وسلاستها. تألق عبدالوهاب الدوكالي في أغانيه لحنا وأداء كما تألق على مستوى اختياره لكلمات أغانيه لذلك جابت أغانيه العالم العربي بأسره وأطربت عشاقه، فعندما غنى أغنيته الشهيرة مرسول الحب عام 1971 لم يكن يعلم أن هذه الأغنية ستؤرخ الفن المغربي وتضع له عنوانا جميلا حمل اسم مرسول الحب.
في أكثر لقاءاته ومقابلاته الصحفية غالبا ما يردد الدوكالي عبارات مثل: “أنا أحسن مطرب، أنا أحسن ملحن، أنا أحسن موسيقي، أنا أحسن من أدى الأغنية الفلانية، أنا مميز، أنا لا وجود لفنان مغربي عبر التاريخ مثلي”، الأمر الذي دفع الكثيرين إلى الانفضاض من حوله.
* مــفــاجــآت الــبـــدايـــة
عبدالوهاب “بوكرن” وهو اسمه الحقيقي الذي كرهه طيلة فترة طفولته وشبابه ليستعيض عنه بلقبه المعروف الحالي، إذ كان سرعان ما يغضب من أصدقائه إذا نادوه بلقبه الأصلي، سُمع صوته لأول مرة على الإذاعة المغربية سنة 1958 في سن لا تتعدّى السادسة عشرة، حيث نظمت مسابقة إذاعية لاكتشاف المواهب الشابة في مجال الغناء، وكان عبدالوهاب الدوكالي ضمن المشاركين، فاختار أغنية “النهر الخالد” لمحمد عبدالوهاب، فكان أن خلد اسمه في تاريخ الأغنية المغربية.
وفي سن الثامنة عشرة سجّل أغنيتين بيع منهما فيما بعد ما يقرب من 45 مليون نسخة وهو رقم لا يمكن الاستهانة به لا سيما وأن بعض عمالقة الطرب في مصر وغيرها لم تصل أغانيهم وانتشارها إلى هذا المستوى طيلة فترات حياتهم.
واصل تألقه ونجاحاته، ليحصل على عدد من الجوائز والأوسمة، حيث فاز بالإسطوانة الذهبية عن أغنيته “ما أنا إلا بشر”، والجائزة الكبرى لمهرجان الأغنية المغربية بالمحمدية، سنة 1985، عن أغنيته “كان يا ما كان” الرائعة والذائعة الصيت، والجائزة الكبرى لمهرجان الأغنية المغربية في مراكش، عام 1993، عن أغنية “أغار عليك”، كما فاز بالجائزة الكبرى بمهرجان القاهرة سنة 1997 عن أغنيته “سوق البشرية”.
* فـــــي مــــصــــــر
خلال تواجده في مصر التي قضى فيها قرابـة الخمـــس سنـوات منذ العام 1960 حتـى 1965 تعــرف الدوكالي وخالط العــديد من الفنانين في ذلك العصر الذهبي للغنــاء العـــــــربي، أمثـــــال عبدالحليم وعبدالوهاب وفريد، ثم آثر العودة كما أسلفنا لينطلق من أرضه ولغته، لكنه لم ينقطع عنها رغم ميله الواضح للاستقرار في أرض المغرب.
وخــلال إحــدى تلــك الزيارات يحدثنا أنيس منصور بحكاية عن الدوكالي وأغنيته الآسرة مرسول الحب أثناء فترة تواجده في مصر حيث يقول: “كان الدوكالي في مصر عندها دعوته إلى بيتي ودعوت أيضا أحد المطربين الشباب الذي أصرّ على إقناعي بأن لديه لحنا جبارا، وعندما قدم الدوكالي غنى الفنان الشاب أغنية مرسول الحب وقال له أنها لحن جديد وجامله الدوكالي طيلة الحفل، إلا انه عند عودته من القاهرة إلى فاس، قام برفع دعوى قضائية لإثبات حقه في الأغنية وقام بإرسال أغنيته الأصلية لي، وعندما استمعت إليها وجدتها أكثر رزانة وانسجاما مع أذني وأحببت هذا الرجل أكثر وأكثر”.
يتهم البعـض الدوكالي بأنـه لم يساعـد الفنانـات والفنـانين المغاربة الشبـاب، فالألحان التي منحها لمطربـات مثـل رجاء بلمليح وفاطمة مقـدادي ولبنـى عفيـف، لم تحقـق نجـاحا يذكر
مع ذلك فإن هذا العملاق الطربي تؤخذ عليه بعض التصرفات والسلوكيات، وكان محط انتقاد بالنسبة إلى البعض ومنهم المقربين منه. على سبيل المثال يتهمه البعض بأنه لم يساعد الفنانات والفنانين المغاربة الشباب، فالألحان التي منحها لمطربات مثل المرحومة رجاء بلمليح وفاطمة مقدادي ولبنى عفيف، لم تحقق نجاحا يذكر، ربما لأن تلك الألحان كان سيغنيها هو في الأصل، ولم يلحنها بشكل خاص لهن، ولم تكن متناسبة مع طبقاتهن الصوتية وطريقة أدائهن، وأنه كان يتقصّد ذلك.
هذا بالإضافة إلى الحادثة الحقيقية التي عايشها جمهور مسرح محمد الخامس في المغرب، خلال إحدى الحفلات التي كان من المقرر أن يحييها الدوكالي. فقبل الحفل بأيام صرح هذا الأخير لإحدى وسائل الإعلام بأن المغرب لا يتوفر فيه عشرة موسيقيين منسجمين.
الفرقة الموسيقية التي كانت تواكب حفلاته دائما اعتبرت أنها مستهدفة بهذا الكلام، فما كان منها إلا أن أعلنت انسحابها من الحفل أمام الجمهور، احتجاجا على التصريح الذي بدر منه. وكان في أكثر لقاءاته ومقابلاته الصحفية غالبا ما يردد العبارات: “أنا أحسن مطرب، أنا أحسن ملحن، أنا أحسن موسيقي، أنا أحسن من أدّى الأغنية الفلانية، أنا مميز، أنا لا وجـود لفنـان مغربي عبـر التاريخ مثلي”.
كل هذه النزعة الفردية في خطاباته دفعت الكثيرين إلى الانفضاض من حوله، وربّما وجد راحته في الابتعاد عن البشر من خلال الاعتكاف بمنزله في شبه عزلة، ورغم أنه لم يعلنها جهرة إلا أنه كان شبه معتزل للغناء. فأغلب وقته يقضيه في بيته الكائن بالدار البيضاء، يستقبل من يشاء من الأصدقاء ولا يخرج إلا نادرا إلى المطاعم.
* مــــواهـــب الـــدوكـــــالــــي الـــعــــديــــدة
فنان استثنائي بكل المقاييس، فقد جمع بين الغناء والتلحين والتمثيل وأيضا الرسم، وكما يتفنن عبدالوهاب الدوكالي في الجمع بين مختلف النوتات الموسيقية، فهو يبدع أيضا في المزج بين مختلف الألوان التي تنتهي بلوحات فنية عدّة، قام بعرض بعضها في معارض خاصة ويحتفظ بالكثير منها في منزله ومنازل أصدقائه، وبيع منها قسم لا بأس به بأسعار تضاهي أسعار فناني عصره، وربما كان الاسم الفني الغنائي له دوره في ارتفاعها وشهرتها.
دخل الدوكالي بدوره عالم السينما، وشارك في أفلام مغربية من بينها “الحياة كفاح” لمحمد التازي و”رمال من ذهب” وهو إنتاج مغربي ـ إسباني و”الضوء الأخضر” و”أين تخبئون الشمس؟” و”أيام شهرزاد الجميلة” لمصطفى الدرقاوي، لكن أدواره السينمائية لم تعش طويلا في ذاكرة جمهوره كما عاشت أغانيه.
الدوكالي فردي يشعر بتميزه الشديد ويجاهر به، وجد راحته في الابتعاد عن البشر من خلال الاعتكاف بمنزله في شبه عزلة بالدار البيضاء.
* خــــزانـــــة الـــذهـــــب
رصيده الغنائي تخطّى الأربعمئة أغنية، يعدّها الشعب المغربي خزانة من ذهب، كان أشهرها: “سوق البشرية”، و”يا الغادي بالطوموبيل” التي أوصلته إلى مرتبة رئيس فناني المغرب، “بيا ولا بيكا الهوى”، و”لهلا أزيد أكثر”، و”الرشوة”، “كان يا ما كان”، و”أنا والغربة، بالإضافة إلى رائعة لحنه التي ألفها الشاعر حسن الفيصلي:
“مرسول الحب فين مشيت وفين غبت علينا
خايــف لتكـون نستينــا وهجرتنا وحالف ما تعود
ما دام الحب بينا مفقود وأنت من نبعه سقيتنا
باســـم المحبـــــة باسم الأعماق وحر الأشواق
كنترجاك تسول فينا وارجع لينا يذوب الصمت وتتكلم أغانينا
مرسول الحب غيابك طال هاذ المرة
وقلوب الأحباب وأنت بعيد ولات صحرا
لا يحركها إحساس جديد ولا تنبت فيها زهرة
تفتح بالشذى وتطيب وتونّس اللي بات غريب
تايه في ليل بلا قمرا”.
يبدو أن مرسول الحب قد تخطّى المغرب العربي مع عبدالوهاب الدوكالي ليصل إلى مشرقه، كما تخطّت في السابق قصيدة أبو القاسم الشابي تونس لتصل مع الـ“بوعزيزي” إلى ثورات المشرق وتخاطب شعوبه، الأولى لتغرس في أعماقنا الوجدان، والثانية لتقول: “إذا الشعب يوما أراد الحياة”.
مملكتنا .م.ش.س