مبادرة الحكم الذاتي، يعدّ سياقا دوليا وإقليميا ووطنيا في آن واحد، ولو كان ذلك بدرجات متفاوتة خاصة أنها مفتوحة على مستقبل وطبيعة التوافق بين الأطراف المتنازعة .
ما فتئ مقترح الحكم الذاتي الذي تقدّم به المغرب كحلّ سياسي للنزاع الدائر حول صحرائه الجنوبية يجد له أصداء إيجابية لدى الأوساط الدولية التي ترى فيه المخرج الأنسب والأسلم الذي من شأنه أن يغلق الباب أمام الدعوات الانفصالية الصادرة عن البوليساريو ومن يقف وراءهم، رغم إصرار هذا الطرف الأخير على عرقلة أي جهود رامية للتسوية تأبيدا للأزمة لا غير.
مبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب منذ عام 2007، هي مبادرة للتفاوض مع طرفين أعلنا عداءهما الواضح لقضية المغرب الوطنية، وافتعلا نزاعا سياسيا تمّ دعمه بقوة السلاح لفترة طويلة بدعوى ممارسة حق تقرير المصير لساكنة الصحراء المغربية شكلا، وفصل الأقاليم الجنوبية عن الوطن، لإقامة دولة “قزمية” عليها، عمليا. وقد جاءت تلك المبادرة لتكريس حقيقة استحالة تطبيق مبدأ تقرير المصير بالشكل الذي ترغب فيه كلّ من الجزائر وجبهة البوليساريو، وبعد معاينة مجلس الأمن الدولي هذه الاستحالة والتوجه نحو العمل على إيجاد حل سياسي توافقي يضع حدا لهذا النزاع الذي استمر أكثر من ثلاثة عقود ونصف.
مبادرة الحكم الذاتي التي تقدّم بها المغرب وتم تثمينها من قبل المجتمع الدولي تواجه اليوم عقبة الموقف الجزائري، والموقف الانفصالي، الذي يحاول عرقلة التفاوض بكل الوسائل الممكنة، بهدف إفشاله والزعم، بعد ذلك، أنّ الحل الوحيد هو العودة إلى خطة الأمم المتحدة، حول تنظيم استفتاء تقرير المصير، التي فشلت في الأصل وفتحت المجال أمام الدعوة إلى الحل السياسي المتفاوض عليه، باعتباره الحل الممكن والذي من شأنه إبعاد شبح تدهور الوضع الأمني والعسكري والعودة إلى المواجهة العسكرية التي يلح الجميع على أنّه لا مصلحة لأحد بالعودة إليها.
ولا يغير من هذه الحقيقة كون قيادة جبهة البوليساريو تلجأ إلى التهديد باستخدام السلاح ضد المغرب، بين الفينة والأخرى، خاصة عندما تواجه في تكتيكاتها السياسية أو بعض استراتيجياتها التفاوضية طريقا مسدودة، أي أنها تستخدم هذا التهديد لابتزاز المغرب، وربما المجتمع الدولي أيضا، للحصول على بعض التنازلات التي تستطيع استخدامها للخروج من مأزقها التكتيكي أو السياسي الإستراتيجي.
وفي الواقع، فإن الجزائر تحاول العودة إلى خطة ميتة أصلا حتى تتهرب من استحقاقات الحل السياسي، وهي التي لا ترغب أساسا في أن يتم التوصل إلى حل للنزاع المفتعل، بل إنها تعمل على تغذيته، بمختلف الطرق والوسائل إلى درجة يمكن معها التساؤل حول مدى دعمها لجبهة البوليساريو ذاتها. ذلك أن الجزائر تسارع إلى منع صنيعتها من التفكير، شبه المستقل، في مصير جزء من الشعب المغربي في مخيمات تندوف، حيث شريعة الغاب هي السائدة، وحيث التطلع إلى حل سياسي يضع حدا لمأساة ساكنيها قد أصبح من حقائق الواقع في المخيمات، رغم القمع المسلط على المحتجزين، وسياسة تكميم الأفواه التي تمارسها البوليساريو تحت العين التي لا تنام لأجهزة مخابرات النظام الجزائري التي لا تترك أيّ مجال للتفكير في غير ما تطرحه على طاولة جبهة البوليساريو الأمنية أو السياسية وخاصة في ميدان التفاوض مع المغرب.
المغرب، رغم هذه العراقيل، مضى في تثبيت هذه القضية الوطنية، مشددا على مكانة الأقاليم الجنوبية ضمن هندسة الإستراتيجية الوطنية تدقيقا للمسؤوليات وضمانا للحقوق المترتبة عن الانتماء والمواطنة، في ظلّ صرح الديمقراطية المتوازنة وهيكلة مغرب المستقبل بمختلف أقاليمه وجهاته. وقد تمّ خلق جهتين في الصحراء الجنوبية من ثمة هما جهة الساقية الحمراء وجهة وادي الذهب.
ولأن سياق مبادرة الحكم الذاتي، يعدّ سياقا دوليا وإقليميا ووطنيا في آن واحد، ولو كان ذلك بدرجات متفاوتة خاصة أنها مفتوحة على مستقبل وطبيعة التوافق بين الأطراف المتنازعة، لكنّها من حيث نوعها ومنطقها وهدفها النهائي مشدودة بالأقاليم الجنوبية التي تعتبر جزءا لا يتجزأ عن المغرب وبعدا من أبعاد سيادته الوطنية، فإنّ هذه المبادرة قابلة للأخذ والرد، وهذا ما يعني اعتبارها مبادرة للتفاوض، وهي تعالج، بالتالي، على ضوء أكثر من مرجعية واحدة في الوقت ذاته، حيث أنها تتعلّق بقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالنزاع، لكن ضمن تأويلين متباينين ومتصارعين: أوّلا تأويل مغربي ينطلق من مبدأ السيادة الوطنية، وضرورة الحفاظ على وحدة المغرب الترابية، وشرعية تواجده في أقاليمه الجنوبية التي تمت فيها تصفية الاستعمار، بموجب اتفاقية مدريد الثلاثية. وثانيا تأويل تجزيئي انفصالي يحصر الرؤية في أقاليم بعينها، ويعمل على اقتطاعها، وبتر السيادة المغربية باسم تلك المبادئ بعد تجريدها من مضمونها الحقيقي، وانتزاعها قسرا من سياقها التاريخي لتبرير التعامل مع الصحراء وسكانها، دون إيلاء أي اعتبار للروابط القانونية والتاريخية بينها وبين المغرب.
مبادرة الحكم الذاتي التي تقدّم بها المغرب وتم تثمينها من قبل المجتمع الدولي تواجه اليوم عقبة الموقف الجزائري، والموقف الانفصالي، الذي يحاول عرقلة التفاوض بكل الوسائل الممكنة .
مملكتنا .م.ش.س