يواصل المخرج المغربي إدريس الروخ ترك بصمته الخاصة في المشهد السينمائي المغربي، من خلال أعمال تحمل عمقًا فنيًا وإنسانيًا، وتقدم رؤية إخراجية تمزج بين الواقعية والبعد الجمالي. في فيلمه الجديد “الوترة”، يأخذنا الروخ إلى عالم الفن الشعبي، حيث تصبح الموسيقى أداة للسرد، واللحن وسيلة للتعبير عن مشاعر الشخصيات وتوتراتها الداخلية. الفيلم لا يكتفي بكونه دراما اجتماعية، بل يتجاوز ذلك ليكون تجربة حسية تتداخل فيها الصورة بالصوت، والإحساس بالحركة، ليخلق عالَمًا سينمائيًا قائمًا بذاته.
تتمحور القصة حول شخصية شعيبة، فنان شعبي يعزف على آلة “لوتار”، وهي ليست مجرد أداة موسيقية، بل امتداد لروحه، يعكس من خلالها رحلته في الحياة، بكل ما تحمله من تحديات وانكسارات وأحلام مؤجلة. هذا الرابط بين الإنسان وآلته الموسيقية لم يكن عنصرًا عابرًا في الفيلم، بل شكَّل جوهره، حيث جاءت الموسيقى لتكون صوت الشخصيات، معبرة عن لحظات الوحدة، الحنين، الألم، والتمرد. الأغنية الرئيسية “الوترة” جاءت لتؤكد هذا التوجه، حيث تحمل نغماتها وإيقاعاتها الشجن ذاته الذي يسكن شخصية شعيبة، مستمدة طاقتها من التراث الموسيقي المغربي، لكنها في الوقت نفسه متجددة، تتجاوز الحدود التقليدية لتصل إلى جمهور أوسع. التوزيع الموسيقي جاء ليعكس هذا التوازن بين الأصالة والمعاصرة، محافظًا على الهوية الفنية، لكنه في الوقت نفسه يفتح آفاقًا جديدة أمام الموسيقى الشعبية المغربية في السينما.
على مستوى السرد السينمائي، يبرز “الوترة” كعمل متكامل لا يعتمد فقط على الموسيقى كعنصر جمالي، بل يوظفها كأداة درامية تُثري الحكي البصري. الشخصيات ليست مجرد أبطال يتحركون داخل القصة، بل هم انعكاسات لحالة فنية واجتماعية، تحمل في ملامحها وتجاربها نبض الحياة اليومية. إلى جانب شعيبة، تتقاطع شخصيات أخرى، لكل منها رحلتها الخاصة، لكن جميعها تتلاقى في نقطة مشتركة: البحث عن الذات وسط صخب الحياة. هذه التقاطعات تُثري النص السينمائي، حيث لا يعتمد الفيلم على خط درامي واحد، بل يقدم شبكة من العلاقات والتجارب التي تجعل الحكاية أكثر عمقًا وواقعية.
الإخراج في “الوترة” لم يكن مجرد وسيلة لسرد القصة، بل كان لغة بصرية بحد ذاتها. إدريس الروخ استطاع، من خلال تكوينات المشاهد، والإضاءة، والزوايا السينمائية، أن يمنح الفيلم طابعًا بصريًا خاصًا، حيث تبدو كل لقطة وكأنها لوحة تعكس الجوهر العاطفي للشخصيات. التصوير لم يكن مجرد توثيق للأحداث، بل كان أداة لنقل الإحساس، حيث تتجلى العواطف في التفاصيل: نظرة عابرة، حركة يد على أوتار “لوتار”، أو حتى صمت مطبق يسبق انفجارًا داخليًا. هذه الحساسية في التعامل مع الصورة جعلت من الفيلم تجربة بصرية غنية، حيث يتحدث الإطار بقدر ما تتحدث الشخصيات.
من جهة أخرى، جاءت الديكورات لتعزز هذا البعد البصري، حيث لم تكن مجرد خلفية للأحداث، بل عنصرًا دراميًا يساهم في خلق الجو العام للفيلم. الأماكن التي يتحرك فيها شعيبة تعكس حالته النفسية، سواء كانت الأزقة الضيقة التي تبرز إحساسه بالعزلة، أو الفضاءات المفتوحة التي ترمز إلى الحرية التي يجدها فقط في الموسيقى. هذا التوظيف الذكي للفضاء جعل من “الوترة” تجربة غنية على مستوى المعنى والمفهوم السينمائي، حيث لا يعتمد الفيلم على الحوار فقط، بل يوظف كل عناصره – من صوت وصورة وأداء وإيقاع – ليخلق تجربة متكاملة.
إن “الوترة” ليس مجرد فيلم عن الموسيقى، بل هو رحلة حسية تعبر عن جوهر الإنسان في بحثه عن صوته الخاص، في محاولته لمواءمة الداخل مع الخارج، والصراع بين الحلم والواقع. إنه عمل يُجسد كيف يمكن للسينما أن تكون أكثر من مجرد حكاية تُروى، بل تجربة تُعاش، حيث تتداخل الموسيقى مع السرد، والإحساس مع الصورة، ليقدم إدريس الروخ عملاً سينمائيًا يضيف بعدًا جديدًا للمشهد السينمائي المغربي، جامعًا بين العمق الدرامي والإبداع البصري والثراء الموسيقي في توليفة سينمائية تحمل روحًا فريدة .
مملكتنا.م.ش.س